عندما يصبح المتصفح ساحة مزدحمة بين الشركاء
في بيئات الأعمال المعقدة، خصوصًا تلك التي تعتمد على علاقات متعددة ضمن سلسلة التوريد، كثيرًا ما يتم الوصول إلى نفس المنصة الرقمية من قبل أطراف مختلفة: مورد، مشرف سلسلة توريد، مدقق حسابات، أو حتى موظف لوجستي.
ما لا يتم الانتباه إليه غالبًا هو أن هذا الوصول المشترك يتم من خلال متصفح واحد، أو جهاز مشترك، مما يخلق حالة من التشابك الرقمي غير المحسوب.
هنا يبدأ التهديد: البيانات لا تُسرق فقط من خلال الاختراقات الكبرى، بل أحيانًا من خلال تراكب الاستخدام البشري داخل متصفح واحد.
أشكال التهديد عند استخدام المتصفح بشكل مشترك
1. مشاركة ملفات تعريف الارتباط (Cookies)
في حال لم يتم تسجيل الخروج أو مسح البيانات بعد كل جلسة، يمكن للمستخدم التالي الوصول إلى جلسة المستخدم السابق، أو على الأقل استغلال ملفات تعريف مرتبطة بالتوثيق.
2. تخزين بيانات الدخول تلقائيًا
المتصفحات تقوم أحيانًا بحفظ كلمات المرور أو أسماء المستخدمين تلقائيًا. هذا يجعل الحساب متاحًا لأي طرف يستخدم الجهاز لاحقًا.
3. التنقل بين حسابات مختلفة دون عزل
عند فتح أكثر من تبويب أو نافذة بنفس المتصفح لحسابات مختلفة، يمكن أن يحدث “تسرّب سياق”، مما يسمح للسكريبتات النشطة في صفحة معينة بالتقاط معلومات من صفحات أخرى.
4. امتدادات المتصفح غير المراقبة
بعض إضافات المتصفح قد تسجّل النشاط أو ترسل البيانات لطرف ثالث. ومع الاستخدام المشترك، تتوسع دائرة الاستهداف.
5. الهندسة الاجتماعية داخل المؤسسة
قد يقوم أحد الأطراف بحفظ بيانات أو ملفات على المتصفح تُستخدم لاحقًا لتصيد زميل أو طرف آخر عبر روابط داخلية خادعة.
تأثير هذه التهديدات على سلسلة التوريد
- فقدان السرية بين الموردين
قد يتم تسريب أسعار، مواعيد تسليم، أو شروط خاصة بين مورد وآخر. - ضعف موثوقية البيانات
إدخال تعديلات على مستندات أو أوامر شراء دون معرفة الجهة الفعلية التي أجرتها. - اختراقات جانبية للبنية التحتية
إذا تم استغلال المتصفح للوصول إلى خوادم داخلية، فقد تمتد الثغرة إلى أنظمة أوسع من مجرد منصة الموردين. - تعقيد عملية التتبع والمساءلة
عند وقوع حادثة، يصعب تحديد المسؤول بسبب عدم الفصل بين المستخدمين ضمن بيئة التصفح.
حلول تقنية لتقليل المخاطر
1. العزل الوظيفي داخل المتصفح (Functional Isolation)
عبر تقنيات مثل “حسابات المستخدم داخل المتصفح” أو “حاويات الجلسات”، يمكن فصل كل مستخدم عن الآخر حتى داخل نفس الجهاز.
2. استخدام متصفحات مخصصة حسب الدور
إنشاء متصفحات مخصصة أو محمولة (Portable Browsers) لكل دور في سلسلة التوريد، مع إعدادات أمان مخصصة.
3. مسح تلقائي للجلسة بعد الاستخدام
باستخدام أدوات مثل CCleaner أو إعدادات الخصوصية في Firefox، يتم حذف بيانات الجلسة تلقائيًا بعد الإغلاق.
4. عدم السماح بتخزين كلمات المرور داخل المتصفح
وإجبار المستخدمين على استخدام مديري كلمات مرور مشفرين مثل Bitwarden أو KeePass.
5. فصل الأجهزة بدلًا من فصل الحسابات فقط
في البيئات الحساسة، يُفضّل تخصيص أجهزة مختلفة للمستخدمين المختلفين بدلاً من مشاركة نفس البيئة البرمجية.
الممارسات السلوكية المهمة في الإدارة
- التدريب على محو الأثر الرقمي
يجب تعليم الموظفين كيفية إنهاء الجلسة بشكل آمن، ومسح بيانات التصفح بعد الانتهاء. - منع استخدام الوضع التلقائي لحفظ بيانات الدخول
سواء في المتصفح أو في نظام التشغيل نفسه. - تحديد الجلسات حسب الوقت أو النشاط
بحيث تنتهي الجلسة تلقائيًا بعد فترة خمول أو إتمام إجراء معين. - الاعتماد على تسجيل الدخول متعدد العوامل (2FA)
لتقييد أي محاولة غير مصرّح بها حتى من نفس الجهاز.
دور فرق الأمن السيبراني في هذه الحالات
يجب على فرق الحماية الرقمية:
- مراقبة نشاط الجلسات المتزامنة داخل المنصة
- تحليل التفاعلات غير المنطقية بين الحسابات من نفس الجهاز
- رصد تغييرات الإعدادات في المتصفح أو محاولات تحميل إضافات جديدة
- توفير تقارير دورية حول نقاط الضعف في “سلوك التصفح الجماعي”
أمثلة واقعية من حالات اختراق
في عام 2021، تعرضت شركة لوجستية أوروبية لاختراق أدى إلى تسريب بيانات موردين عبر منصة التوريد الداخلية. التحقيق أظهر أن السبب كان استخدام ثلاثة موظفين من أقسام مختلفة نفس المتصفح من جهاز مشترك، ما سمح لأحدهم بالدخول على حساب غير مخصص له دون قصد.
وفي حادثة أخرى، تم اكتشاف امتداد في متصفح أحد الموردين كان يسجّل محتوى الجلسات ويرسله إلى جهة خارجية، مما أدى إلى تسريب معلومات حساسة حول مناقصات لم تُعلن بعد.
الاستنتاج: الحماية تبدأ من المتصفح
رغم قوة الأنظمة المحيطة، يظل المتصفح هو البوابة الأكثر هشاشة إذا لم تُدار بشكل صحيح. وفي بيئات متعددة الأطراف مثل سلاسل التوريد، يصبح التحكم في “كيف، ومن، ومتى” يتم التصفح أمرًا ضروريًا.
التقنيات موجودة، لكن التطبيق الفعلي يتطلب تنسيقًا بين الفرق التقنية، الإدارية، والأمنية. لأن هجمة واحدة عبر تبويب مفتوح قد تكلف المؤسسة أكثر من صفقة مورّد.
متصفح لكل دور، لا لكل شخص
لا يكفي أن نثق بالمتصفح، بل يجب أن نُهيّئه ليفهم أن لكل دور وظيفي حدودًا رقمية واضحة. مشاركة المتصفح بدون حوكمة تعني مشاركة الوصول، والمعلومة، والمسؤولية — وربما الخطأ.
ابدأ من المتصفح، واضبطه كما تضبط أي نظام معقد… لأنه بوابتك الأولى نحو الأمن، أو الثغرة التي تسقط كل شيء.