الهجمات السيبرانية في خدمة السياسات الدولية: الأمن الرقمي للدبلوماسية في زمن النزاعات

الهجمات السيبرانية في خدمة السياسات الدولية: الأمن الرقمي للدبلوماسية في زمن النزاعات

الهجمات السيبرانية في خدمة السياسات الدولية: الأمن الرقمي للدبلوماسية في زمن النزاعات

شهدت العلاقات الدولية في العقد الأخير تحولًا واضحًا مع تصاعد استخدام الهجمات السيبرانية كأداة ضغط جيوسياسية بين الدول. تستعرض هذه المقالة كيف توظف بعض القوى العالمية القدرات الرقمية لتقويض خصومها سياسيًا ودبلوماسيًا، وتُحلل في الوقت نفسه الأساليب التي تعتمدها البعثات والسفارات لحماية بنيتها الرقمية الحساسة من التهديدات المتقدمة.

تحوّلت الدبلوماسية من محادثات تجري خلف أبواب مغلقة إلى تفاعلات إلكترونية مكثفة تتم عبر شبكات رقمية. ولم يقتصر هذا التحول على تطوير أدوات العمل، بل استُغل أيضًا كساحة صراع رقمية بين الدول. في الوقت الراهن، لم تعد الهجمات السيبرانية مجرد أداة تخريب، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من أدوات الضغط الجيوسياسي التي تستخدمها بعض القوى الدولية لتوسيع نفوذها أو زعزعة استقرار الخصوم.

الهجمات السيبرانية كسلاح سياسي معاصر

تسعى بعض الدول إلى استخدام الهجمات الرقمية بهدف التأثير على قرارات سياسية أو اختراق مؤسسات دبلوماسية حساسة. غالبًا ما تتنكر هذه الجهات خلف مجموعات قرصنة مستقلة، لكنها تنفذ الأجندات الرسمية بصورة غير مباشرة.

في هذا الإطار، ظهرت أنماط جديدة من “الحرب الباردة الرقمية” حيث تستهدف كل جهة مؤسسات الطرف الآخر، ليس فقط لجمع المعلومات، بل للتأثير في مسارات التفاوض أو تسريب وثائق محرجة في توقيتات مدروسة.

أهداف الهجمات على السفارات والبعثات

1. التنصت على المحادثات والاتصالات

تحاول الجهات المهاجمة الدخول إلى أنظمة البريد الإلكتروني أو برامج الاجتماعات الرقمية للوصول إلى معلومات استراتيجية، خصوصًا أثناء الأزمات أو المفاوضات الدولية.

2. تعطيل عمل البعثات

يركز بعض المخترقين على إيقاف أنظمة التأشيرات أو إغلاق بوابات الاتصال الداخلي، مما يعرقل عمل السفارة ويؤثر على صورتها أمام الرأي العام.

3. سرقة الوثائق السرية

في حالات عديدة، نجحت مجموعات اختراق في الوصول إلى وثائق دبلوماسية غير منشورة، ثم استخدمتها للتفاوض أو التسريب أو الابتزاز السياسي.

4. نشر أخبار مزيفة عبر وثائق مُلفقة

تقوم بعض الجهات بتزوير وثائق رسمية تُنسب إلى البعثات، وتقوم بتسريبها عبر وسائل إعلام أو حسابات مجهولة، لخلق ضجة سياسية وإرباك الموقف الرسمي.

نماذج من الساحة الدولية

رصدت تقارير أوروبية في عام 2022 محاولات اختراق إلكتروني استهدفت بعثات دبلوماسية تابعة لدول الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا. وقد تمكن فريق الاستجابة من احتواء المحاولة بعد أيام من المراقبة الفنية الدقيقة.

في واقعة أخرى، اخترقت مجموعة تُعرف باسم “APT29” أنظمة وزارة الخارجية في بلد غربي بارز، واستطاعت سحب مئات الرسائل والوثائق المرتبطة بعلاقات إقليمية حساسة. مثّلت هذه الحادثة نقطة تحول في إدراك الخطر السيبراني في الدبلوماسية.

كيف تبني الدول دفاعًا سيبرانيًا لدبلوماسيتها؟

1. اعتماد التشفير المتقدم

تستخدم البعثات الدبلوماسية بروتوكولات تشفير قوية مثل TLS وPGP لتأمين المراسلات والمحادثات الداخلية. يعمل التشفير على منع الأطراف الخارجية من قراءة البيانات أو التلاعب بها أثناء النقل.

2. تطبيق أنظمة فصل الشبكات

تنشئ الدول بنية شبكية مزدوجة داخل السفارات: شبكة داخلية مغلقة تُستخدم للاتصال الآمن، وشبكة خارجية مخصصة للأنشطة غير السرية، مما يقلل احتمالات التسريب.

3. توزيع أجهزة مخصصة وآمنة للدبلوماسيين

توفر بعض الوزارات أجهزة تشغيل محمية ذات إعدادات محددة مسبقًا، تمنع تحميل البرامج الخارجية أو استخدام وسائل تخزين متنقلة.

4. مراقبة الشبكات وتحليل التهديدات

توظف فرق الأمن السيبراني أدوات متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمتابعة حركة البيانات وتحليل سلوك المستخدمين. في حال رُصد نشاط غير مألوف، تطلق الأنظمة تنبيهات تلقائية لاتخاذ الإجراء المناسب.

5. التدريب المستمر للكوادر الدبلوماسية

تنظم وزارات الخارجية ورش عمل إلزامية لجميع الموظفين، لرفع الوعي حول كيفية التعامل مع رسائل التصيّد والروابط المزيفة وتطبيقات الاتصال غير الآمنة.

التحديات القانونية والتنظيمية

رغم شدة التهديدات، لا توجد اتفاقيات دولية ملزمة تجرّم بشكل واضح الهجمات على المؤسسات الدبلوماسية الرقمية. بينما تحمي “اتفاقية فيينا” المقرات الفعلية والموظفين، تظل البنية الرقمية خارج نطاق الحماية القانونية الواضحة.

لذلك، دعت جهات مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى صياغة “ميثاق دبلوماسي سيبراني” يحدد الخطوط الحمراء ويمنح البعثات الرقمية حصانة مماثلة لتلك المعتمدة ميدانيًا.

تحديات إضافية: الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق

أصبحت التهديدات أكثر تعقيدًا بسبب دخول تقنيات جديدة مثل التزييف العميق (deepfake)، والتي تسمح بإنشاء فيديوهات مزورة تُنسب إلى دبلوماسيين أو سفراء. تستخدم بعض الجهات هذه التقنيات لنشر الفوضى أو تشويه السمعة.

بالإضافة إلى ذلك، تستغل بعض الجهات البيانات العامة لتتبع أنشطة المسؤولين الدبلوماسيين، مما يزيد من صعوبة ضمان الخصوصية الرقمية للبعثات.

يُشكّل الأمن السيبراني أحد أركان الدبلوماسية الحديثة. إذ لم يعد مقبولًا أن تفصل الدول بين أمنها السياسي وأمنها الرقمي. لذلك، تحتاج الدول إلى مأسسة سياساتها الدفاعية، وتطوير أدواتها التقنية، وتدريب كوادرها بشكل دوري، من أجل حماية مصالحها الدبلوماسية في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة. في النهاية، ستُحدد المعادلات الرقمية الجديدة من ينتصر في معركة التأثير، ومن يخسر أمنه دون أن يشعر.

شارك