في أوقات الكوارث والحروب، تصبح المعلومة أكثر ندرة من الماء والكهرباء. فحين تنهار الاتصالات وتتعطل الأنظمة، يتحول الإعلام إلى خط الدفاع الأول عن الحقيقة، وأداة لإنقاذ الأرواح وتنظيم الاستجابة الإنسانية.
لكن هذا الدور المصيري يصاحبه هشاشة كبيرة. فالمراسلون الميدانيون يعملون وسط مخاطر مادية ورقمية هائلة، بينما تعتمد وكالات الأنباء والمنظمات الإنسانية على شبكات اتصال قد تكون أول ما يُستهدف في النزاعات.
من هنا وُلد مفهوم إعلام الأزمات، الذي يدمج بين الصحافة الميدانية، وإدارة الطوارئ، والأمن السيبراني، لتأمين تدفق مستمر وآمن للمعلومات في أكثر الظروف اضطراباً.
مفهوم إعلام الأزمات
إعلام الأزمات هو منظومة من الممارسات الصحفية والتقنية تهدف إلى ضمان استمرارية العمل الإعلامي أثناء الكوارث أو النزاعات، مع الحفاظ على سلامة الصحفيين وسلامة مصادرهم وبياناتهم.
يتميّز هذا النوع من الإعلام بعدة خصائص:
- الاعتماد على شبكات اتصالات بديلة مثل الأقمار الصناعية أو الشبكات اللامركزية.
- امتلاك بروتوكولات استجابة سريعة عند تعطل البنية التحتية.
- الالتزام بالتحقق الميداني والمصداقية رغم ضغوط الوقت والخطر.
يتجاوز إعلام الأزمات فكرة “نقل الخبر” ليصبح بنية استراتيجية لحماية تدفق المعلومات وضمان حق الجمهور في المعرفة في المواقف الاستثنائية.
البنية التحتية للإعلام أثناء الكوارث
البنية الإعلامية التقليدية — من استوديوهات ومكاتب تحرير وخوادم بث — لا تصمد أمام انهيار الاتصالات أو القصف أو انقطاع الطاقة.
لذلك، تتبنى المؤسسات الحديثة أنظمة بديلة تقوم على المرونة والتكرار، من أبرزها:
1. وحدات البث المحمولة:
معدات خفيفة تعتمد على الأقمار الصناعية أو شبكات الهاتف الفضائي، تتيح نقل الصوت والصورة من أي مكان دون الاعتماد على الإنترنت الأرضي.
2. التخزين اللامركزي للبيانات:
استخدام خدمات التخزين الموزع (Distributed Storage) التي تضمن بقاء الملفات الصحفية متاحة حتى عند تدمير مركز بيانات واحد.
3. شبكات الطوارئ المحلية:
إنشاء شبكات لاسلكية مؤقتة بين المراسلين والمؤسسات الإعلامية عبر أجهزة صغيرة تعمل بتقنية “Mesh Network”، مما يسمح بتبادل المعلومات دون الحاجة لاتصال مركزي.
4. أنظمة النسخ الاحتياطي التلقائي:
إرسال نسخ من المواد الإعلامية فورياً إلى خوادم آمنة خارج منطقة الخطر لتقليل خسارة البيانات عند الهجمات أو المصادرة.
أمن المعلومات في البيئات الميدانية
التهديدات ضد الصحفيين في مناطق الأزمات لم تعد جسدية فقط، بل رقمية أيضاً. فعمليات التجسس والاختراق والمراقبة باتت أدوات متكررة لإسكات الإعلام.
من هنا تأتي أهمية الأمن الرقمي كجزء لا يتجزأ من التدريب الإعلامي الميداني.
إجراءات الحماية الأساسية تشمل:
- استخدام اتصالات مشفرة عبر تطبيقات موثوقة مثل Signal أو ProtonMail.
- الاعتماد على VPN آمن لتجنب المراقبة الشبكية.
- تشفير الأجهزة المحمولة وتفعيل ميزة حذف البيانات عند المصادرة.
- تجنب ربط الأجهزة بالشبكات العامة أو أجهزة الشحن المجهولة.
- تدريب المراسلين على كشف محاولات التصيّد والهندسة الاجتماعية.
كما ينبغي أن تمتلك المؤسسات الإعلامية سياسات واضحة لإدارة المخاطر الرقمية، وخطط طوارئ لاستعادة الوصول إلى البيانات والاتصالات في حال الانقطاع الكامل.
الإعلام الإنساني وتدفق المعلومات الموثوقة
في الأزمات، تكون المعلومات الموثوقة عاملاً حاسماً لإنقاذ الأرواح. الأخبار المضللة أو الشائعات قد تؤدي إلى قرارات خاطئة أو إلى تصعيد النزاع.
لذلك، يعمل إعلام الأزمات بالتنسيق مع هيئات الإغاثة ومنظمات الأمم المتحدة لضمان دقة البيانات الميدانية ونشرها بطريقة مسؤولة.
يُعد التحقق الرقمي (Digital Verification) من أهم أدوات هذا العمل، ويشمل تحليل الصور والفيديوهات الواردة من الميدان عبر تقنيات تحديد الموقع الجغرافي والتحقق من البيانات الوصفية للملفات.
كما يعتمد الصحفيون على أدوات مفتوحة المصدر (OSINT) لتأكيد المعلومات في ظل غياب الوصول المباشر.
تحديات الحياد والأمان
في سياقات النزاع، يصبح الحياد الإعلامي هدفاً صعباً. فالأنظمة المتصارعة قد تعتبر المعلومات تهديداً سياسياً أو عسكرياً، مما يجعل الصحفيين عرضة للاستهداف.
من جهة أخرى، يتطلب الحفاظ على أمن المراسلين توازناً دقيقاً بين واجب التغطية وحق الحياة.
لذلك تضع المؤسسات المهنية مبادئ توجيهية تشمل:
- الامتناع عن الكشف عن مواقع حساسة أو تحركات إنسانية.
- استخدام أسماء مستعارة لحماية المصادر.
- الفصل بين البيانات المهنية والشخصية في الأجهزة.
- الالتزام بالقوانين الدولية الخاصة بحماية الصحفيين في النزاعات المسلحة.
التكنولوجيا كوسيلة مقاومة إعلامية
التقدم التقني يتيح اليوم أدوات مقاومة رقمية للإعلام المستقل.
فالتقنيات اللامركزية مثل البلوك تشين تُستخدم لتوثيق الأخبار ومنع تزويرها، بينما توفر الأقمار الصناعية منخفضة المدار (LEO) اتصالات سريعة ومستقلة عن الرقابة المحلية.
كما تطور بعض المنظمات أنظمة “الإنترنت في حالات الطوارئ” التي تعمل دون بنية تحتية تقليدية عبر الطائرات المسيّرة أو البالونات اللاسلكية.
تتيح هذه الحلول الحفاظ على الحد الأدنى من الاتصال حتى في أكثر البيئات دماراً، ما يجعل الإعلام قادراً على البقاء فاعلاً في أصعب الظروف.
التدريب وبناء القدرات
لا يمكن فصل أمن الإعلام عن كفاءة العاملين فيه. لذلك باتت الدورات المتخصصة في السلامة الرقمية والميدانية للصحفيين جزءاً أساسياً من التدريب في المؤسسات الكبرى.
تشمل هذه الدورات الإسعاف الأولي، إدارة الإجهاد النفسي، العمل ضمن فرق الطوارئ، واستخدام الأدوات الآمنة لنقل البيانات.
كما يُشجع التعاون بين المؤسسات الإعلامية ومنظمات الحماية الرقمية لتطوير بروتوكولات استجابة موحدة في حال انهيار الاتصالات أو استهداف مقرات الإعلام.
لابد من التذكّر
أن أمن الإعلام أثناء الأزمات ليس ترفاً تنظيمياً بل شرطاً لبقاء الحقيقة.
ففي زمن تتداخل فيه الحروب السيبرانية مع النزاعات الميدانية، يصبح الخبر نفسه هدفاً استراتيجياً.
ضمان تدفق المعلومات يعني حماية الوعي العام، وصون حق الشعوب في المعرفة مهما كانت الظروف، لأن انقطاع المعلومة هو أول مظاهر الهزيمة في أي حرب.




