لم تعد الجامعات مجرد مؤسسات تعليمية، بل أصبحت مراكز ضخمة لإنتاج وتخزين المعلومات الحساسة، من بيانات الطلاب والموظفين إلى الأبحاث العلمية وبراءات الاختراع.
ومع توسع الاعتماد على الخدمات الرقمية والمنصات السحابية، أصبحت البيئة الأكاديمية هدفاً جذاباً للهجمات السيبرانية التي تستغل ضعف الحماية أو قلة الوعي.
تشير تقارير أمن المعلومات إلى أن أكثر من 70% من الجامعات تعرضت لمحاولات اختراق خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعضها أدى إلى تسريب بيانات أو تعطيل الخدمات التعليمية.
هذا الواقع يفرض على الجامعات الانتقال من رد الفعل إلى الحوكمة الاستباقية في إدارة الأمن السيبراني.
بيئة الجامعة كنظام رقمي مفتوح
تتميز الجامعات بخصوصية تجعلها عرضة أكثر من غيرها للهجمات. فهي تجمع بين خصائص المؤسسة الحكومية، ومركز الأبحاث، والمجتمع المفتوح.
فيها عشرات الأنظمة المتصلة: تسجيل أكاديمي، بريد إلكتروني، مختبرات بحثية، منصات تعليم إلكتروني، شبكات طلابية، وأجهزة شخصية متصلة بالشبكة نفسها.
هذا الانفتاح يُصعّب تطبيق سياسات الأمان التقليدية القائمة على العزل الصارم، ويخلق حاجة إلى حوكمة مرنة تحفظ التوازن بين الأمن والانفتاح الأكاديمي.
طبيعة التهديدات في المؤسسات الأكاديمية
الهجمات التي تستهدف الجامعات تتنوع في الدوافع والأهداف:
1. سرقة البيانات البحثية:
الجامعات تنتج أبحاثاً استراتيجية في مجالات مثل الطاقة والدفاع والذكاء الاصطناعي، ما يجعلها هدفاً للتجسس الصناعي أو الحكومي.
2. هجمات الفدية (Ransomware):
يعتمد المهاجمون على تشفير بيانات المؤسسة والمطالبة بفدية لإعادتها، ما يشل العمليات التعليمية والإدارية.
3. الوصول غير المصرح به:
يستغل القراصنة ضعف كلمات المرور أو الثغرات في الأنظمة للحصول على صلاحيات إدارية.
4. التلاعب بالنتائج والملفات الأكاديمية:
يُعد هذا النوع من الهجمات خطيراً لأنه يمس النزاهة العلمية ويقوض الثقة في المؤسسة.
5. الهندسة الاجتماعية:
التهديد الأكثر شيوعاً، حيث يُخدع المستخدمون عبر رسائل مزيفة تطلب بياناتهم أو دخولهم إلى روابط ضارة.
مفهوم الحوكمة الأمنية في الجامعة
حوكمة الأمان السيبراني تعني وضع إطار إداري وتقني ينظم مسؤوليات الحماية داخل الجامعة.
يتضمن هذا الإطار ثلاثة محاور رئيسية:
- السياسات والإجراءات: تحديد القواعد الخاصة بإدارة الوصول، النسخ الاحتياطي، مشاركة البيانات، وتحديث الأنظمة.
- الهيكلة التنظيمية: إنشاء وحدة أمن معلومات مؤسسية ترتبط مباشرة بالإدارة العليا أو مجلس الأمناء.
- المساءلة والمراجعة: وضع آليات تقييم دوري لفعالية الإجراءات، وتحديد مؤشرات أداء للأمن السيبراني.
تضمن الحوكمة المؤسسية أن يصبح الأمان جزءاً من استراتيجية الجامعة لا مجرد وظيفة تقنية.
الثقافة الأمنية: من التقنية إلى السلوك
لا يكفي إنشاء أنظمة حماية متقدمة دون وعي المستخدمين بها.
في الجامعة، يشكّل الطلاب والأساتذة والموظفون الحلقة الأضعف والأهم في آن واحد.
لذلك يجب بناء ثقافة أمنية مؤسسية عبر:
- برامج توعية دورية: تشمل ورشات حول التصيد الإلكتروني، حماية الحسابات، وإدارة البيانات الشخصية.
- دمج الأمان في المناهج الأكاديمية: خاصة في التخصصات التقنية والإدارية، لترسيخ مفهوم “الأمن بالممارسة”.
- تحفيز السلوك المسؤول: عبر مكافآت أو شهادات للمشاركين في مبادرات الأمن الرقمي.
- محاكاة الهجمات: تدريب عملي يحاكي التهديدات الحقيقية لتطوير مهارات الاستجابة.
بذلك يتحول الأمن من عبء إلى ثقافة يومية تمارسها الجامعة بأكملها.
البنية التقنية للأمان في الحرم الرقمي
تعتمد حماية البيئة الجامعية على منظومة تقنية متكاملة تشمل:
- جدران حماية متعددة الطبقات (Firewalls).
- أنظمة كشف التسلل والاستجابة الفورية (IDS/IPS).
- التشفير الإلزامي لملفات الأبحاث والبيانات الشخصية.
- المصادقة متعددة العوامل (MFA) لجميع المستخدمين.
- تحديث دوري للأنظمة والتطبيقات الأكاديمية.
- النسخ الاحتياطي في مواقع خارجية (Off-site Backup).
كما يجب تطبيق مبدأ الحد الأدنى من الصلاحيات بحيث لا يمكن لأي مستخدم الوصول إلا إلى الموارد الضرورية لعمله، مع مراقبة دائمة للسجلات الأمنية.
التعاون بين الجامعات والجهات الأمنية
الأمان السيبراني في التعليم العالي يتجاوز حدود كل مؤسسة، لأن الهجمات عادة ما تستهدف الشبكات الأكاديمية ككل.
لذلك يُوصى بإنشاء شبكات تعاون وطني وإقليمي بين الجامعات لتبادل الإنذارات والبيانات حول الهجمات.
كما يمكن التعاون مع مراكز الاستجابة للطوارئ السيبرانية (CERTs) لتنسيق الدفاعات والاستجابة للحوادث بشكل موحد.
تُظهر التجارب أن العمل التعاوني يقلل من زمن اكتشاف الهجمات بنسبة تزيد عن 40% مقارنة بالمؤسسات المنعزلة.
الإطار الأخلاقي والبحثي للأمان الأكاديمي
ينبغي أن تمتد الحوكمة الأمنية إلى المجال البحثي نفسه، حيث تُجرى تجارب على البيانات الحساسة أحياناً دون معايير واضحة للحماية.
يُعد إنشاء لجان أخلاقيات رقمية في الجامعات خطوة أساسية لمراجعة مشاريع الأبحاث التي تتضمن جمع بيانات شخصية أو بيومترية، وضمان توافقها مع القوانين الوطنية والمعايير الأخلاقية.
كما يجب أن تلتزم المشاريع البحثية الممولة خارجياً بمعايير الأمان نفسها، مع رقابة داخلية تمنع مشاركة البيانات دون موافقة مؤسسية.
نحو جامعة آمنة رقمياً
الجامعة الآمنة رقمياً ليست تلك التي تمتلك أفضل البرمجيات، بل التي تجمع بين البنية التقنية والوعي البشري والسياسات الرشيدة.
الحوكمة الفعالة تعني تحويل الأمان إلى قيمة مؤسسية، لا استجابة لحادثة عابرة.
كما أن الاستثمار في التدريب المستمر وإدارة المخاطر يجب أن يُعامل كجزء من جودة التعليم والبحث، لا مجرد تكلفة تشغيلية.
لابد من التذكّر
أن الأمان السيبراني في الجامعات هو حماية للمعرفة قبل أن يكون حماية للأنظمة.
فالبيانات الأكاديمية تمثل ثروة وطنية، وأي تسريب أو اختراق لها هو مساس مباشر بمستقبل البحث والتعليم.
بناء ثقافة أمنية مؤسسية ليس خياراً تقنياً، بل ضرورة استراتيجية تضمن أن تبقى الجامعة فضاءً آمناً للعلم في عالم تتقاطع فيه المعلومة مع الخطر.





