لم يعد السعر الذي يراه المستهلك على الإنترنت ثابتاً أو عاماً. في عصر الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يدفع شخصان ثمنين مختلفين تماماً للمنتج نفسه بناءً على تاريخهما الرقمي وسلوكهما الشرائي.
تُعرف هذه الظاهرة بـ التسعير الديناميكي، وهي آلية تعتمد على التحليل الفوري للبيانات لتحديد السعر “المناسب” لكل مستخدم على حدة.
من حيث المبدأ، تهدف هذه النماذج إلى تحقيق كفاءة اقتصادية وتوازن بين العرض والطلب، لكنها في الواقع تفتح الباب أمام تساؤلات أخلاقية عميقة:
إلى أي مدى يُسمح للشركات باستخدام بيانات الأفراد لتحديد ما يدفعونه؟ وهل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة لتمييز المستهلكين أو استغلالهم رقمياً؟
مفهوم التسعير الديناميكي
التسعير الديناميكي هو نظام تسعير مرن يتغير تلقائياً وفقاً للظروف السوقية وسلوك المستخدمين.
يعتمد على خوارزميات تحليل البيانات الضخمة التي تجمع معلومات من مصادر متعددة تشمل:
- تاريخ المشتريات السابقة.
- الموقع الجغرافي.
- نوع الجهاز المستخدم.
- الوقت من اليوم أو الأسبوع.
- سلوك التصفح والبحث.
بناءً على هذه المعطيات، تقوم أنظمة الذكاء الاصطناعي بتوقع مدى استعداد المستخدم للدفع وتضبط السعر تبعاً لذلك، في عملية تتم خلال أجزاء من الثانية دون تدخل بشري مباشر.
كيف تعمل خوارزميات التسعير الذكية؟
تعتمد هذه الأنظمة على مزيج من التعلم الآلي (Machine Learning) وتحليل التنبؤ (Predictive Analytics).
تبدأ الخوارزمية بتجميع البيانات الشخصية والسلوكية، ثم تقسيم المستهلكين إلى فئات وفق مؤشرات مثل الدخل المتوقع، أو الولاء للعلامة التجارية، أو حساسية السعر.
بعد ذلك، يتم اختبار ردود الأفعال عبر تجارب متعددة للأسعار، حيث تُعرض قيم مختلفة لمجموعات صغيرة ويتم تحليل النتائج لتحديد “السعر الأمثل” لكل فئة.
ومع مرور الوقت، تتعلم الخوارزمية الأنماط الدقيقة لاستهلاك الأفراد وتستطيع تعديل الأسعار لحظياً وفق السياق الاقتصادي أو حتى الحالة المزاجية inferred من نشاط المستخدم على الإنترنت.
الجانب الاقتصادي: بين الكفاءة والاستغلال
يُنظر إلى التسعير الديناميكي على أنه أداة فعالة لزيادة الكفاءة السوقية.
ففي قطاعات مثل النقل الجوي والتجزئة الإلكترونية والطاقة، يساهم في توازن العرض والطلب وتقليل الهدر.
لكن عندما يتحول من نموذج اقتصادي إلى نظام مراقبة سلوكي، يفقد طابعه الحيادي ويصبح أداة للتمييز السعري.
يمكن للخوارزميات أن تفرض سعراً أعلى على المستهلكين الذين يظهرون “ولاءً” لعلامة معينة أو يسكنون في مناطق ذات دخل مرتفع، أو حتى أولئك الذين يتصفحون عبر أجهزة معينة مثل هواتف آيفون.
هذه الممارسات تُعرف باسم التسعير التفريقي الخفي، وغالباً ما تتم دون علم المستخدمين أو موافقتهم.
الخصوصية كأداة اقتصادية
في هذا النموذج، تصبح البيانات الشخصية رأس المال الحقيقي.
فكل نقرة وزيارة وشراء تشكل عنصراً في ملف رقمي يُستخدم لتقدير استعداد الشخص للدفع.
تُعد هذه البيانات بالنسبة للشركات مادة خام لتوليد الأرباح، لكنها بالنسبة للأفراد تمثل تراجعاً عن حق أساسي في الخصوصية والاختيار الحر.
يُثير هذا النموذج إشكالية أخلاقية واضحة: هل يحق للشركات استخدام المعلومات الشخصية لتحديد الأسعار دون إذن صريح؟
القوانين الحالية لحماية البيانات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR) تمنح الأفراد حق الاعتراض على المعالجة الآلية لبياناتهم، لكنها لا تفرض قيوداً واضحة على التسعير الديناميكي نفسه.
الشفافية والخطر الخوارزمي
من التحديات الكبرى في أنظمة التسعير الذكية هو غياب الشفافية.
فحتى لو كانت الشركات لا تنوي التمييز، فإن الخوارزميات قد تتعلم أنماطاً منحازة من البيانات التاريخية، وتعيد إنتاجها دون وعي.
على سبيل المثال، إذا أظهرت البيانات أن سكان منطقة معينة يدفعون أسعاراً أعلى، فإن النظام قد يرسخ هذا السلوك تلقائياً باعتباره “أفضلية اقتصادية”، مما يخلق حلقة من التمييز الخوارزمي يصعب كسرها.
تزداد خطورة هذا الوضع مع استخدام الذكاء الاصطناعي غير القابل للتفسير، إذ يصعب حتى على المبرمجين تحديد الأسباب الدقيقة التي قادت النظام إلى تحديد سعر معين لفئة من المستخدمين.
أطر الحماية المقترحة
تتجه بعض الدول نحو تطوير أطر تنظيمية جديدة لضمان عدالة التسعير الرقمي.
من بين أبرز المقترحات:
- إلزام الشركات بالإفصاح عن آليات التسعير الآلي وبيان ما إذا كانت تستخدم بيانات شخصية في الحساب.
- حظر التمييز السعري غير المبرر بين الأفراد أو الفئات السكانية.
- تعزيز حق المستهلك في تفسير القرار الخوارزمي، بحيث يمكنه معرفة سبب السعر المقدم له.
- اعتماد رقابة خوارزمية مستقلة تراجع نماذج الذكاء الاصطناعي للتحقق من التحيز والانتهاكات.
كما يمكن للمستهلكين حماية أنفسهم جزئياً من خلال استخدام أوضاع التصفح الخاصة، وتقييد ملفات تعريف الارتباط، وعدم ربط حساباتهم التجارية بحساباتهم الاجتماعية.
نحو تسعير عادل في الاقتصاد الرقمي
يتطلب الانتقال إلى سوق رقمية عادلة توازناً بين كفاءة التكنولوجيا وحقوق المستهلك.
فالذكاء الاصطناعي في التسعير لا يجب أن يُستخدم فقط لتعظيم الأرباح، بل يمكن توظيفه أيضاً لتقديم خصومات ذكية وتحفيز سلوكيات استهلاكية مسؤولة.
المدن الذكية والأسواق المتصلة بحاجة إلى حوكمة رقمية شفافة تضمن أن الخوارزميات لا تتحكم في الأسعار دون رقابة بشرية أو معايير أخلاقية.
لابد من التذكّر
أن الذكاء الاصطناعي في التسعير الديناميكي يمثل وجهاً جديداً للاقتصاد الرقمي، لكنه في الوقت نفسه اختبار حقيقي لحدود الخصوصية الفردية.
عندما يصبح السعر انعكاساً لسلوكنا الشخصي وبياناتنا الرقمية، تتلاشى المسافة بين السوق والرقابة.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يخدم المستهلك كما يمكن أن يستغله، والفرق بين الحالتين تحدده القوانين والشفافية التي تحكم البيانات لا الخوارزميات وحدها.





