الحسابات الرقمية كمسار سهل للملاحقة
مع توسع دور الإنترنت في الصحافة الحديثة، بات من الطبيعي أن ينشر الصحفيون تقاريرهم عبر حسابات تويتر أو فيسبوك أو حتى من خلال مدونات شخصية. لكن في الدول التي لا تحترم حرية التعبير، هذه الحسابات تحولت إلى بوابة مفتوحة للمراقبة الرسمية وغير الرسمية.
الأجهزة الأمنية لم تعد بحاجة لاعتراض المكالمات أو وضع العملاء في المقاهي. يكفي تتبع منشورات عامة، وتحليل قائمة المتابعين، والاطلاع على التعليقات لمعرفة دوائر الصحفيين الاجتماعية ومصادر معلوماتهم المحتملة.
حتى الإعجابات أو إعادة التغريد قد تُستخدم لاحقًا كأدلة إدانة. في بعض الحالات، أُوقف صحفيون أو نُفذت ضدهم إجراءات قانونية فقط لأنهم تفاعلوا مع محتوى تعتبره الدولة حساسًا أو معارضًا.
أدوات رقمية أكثر تطورًا مما نعتقد
لم يعد التتبع يعتمد على موظفين يجلسون أمام الشاشات ويراقبون حسابات بعينها. في الكثير من الدول، توظف السلطات برامج ذكاء اصطناعي قادرة على مسح الشبكات الاجتماعية بصورة شبه كاملة، بحثًا عن كلمات مفتاحية أو أنماط سلوكية مرتبطة بالصحفيين والناشطين.
هذه الأنظمة يمكنها تحليل ملايين المنشورات يوميًا، وربطها معًا للكشف عن علاقات خفية بين المستخدمين. على سبيل المثال، إذا كان صحفي يتواصل بانتظام مع مجموعة معينة من الحسابات، أو يتابع مصادر معلومات مستقلة، فربما يُوضع تلقائيًا في قائمة مراقبة.
بعض التقارير الحقوقية وثّقت استخدام حكومات لبرمجيات تجارية متخصصة في اختراق الحسابات، بل حتى الهواتف المحمولة، من أجل نسخ الرسائل والمحادثات والصور الخاصة للصحفيين.
الشبكات الاجتماعية نفسها تحت المجهر
المفارقة أن الشبكات الاجتماعية صُممت في الأصل لتعزيز التواصل والانفتاح. لكنها اليوم في سياقات الدول القمعية باتت أداة قوية بيد الأجهزة الأمنية.
حتى دون تدخل حكومي مباشر، خوارزميات هذه الشبكات تسهم في خلق خرائط رقمية دقيقة عن العلاقات والأفكار. التوصيات التي تظهر للمستخدمين، وقوائم «الأشخاص الذين قد تعرفهم»، وأرشيف الإعجابات، كلها مواد خام ثمينة لمن يسعى لبناء ملف شخصي كامل عن الصحفي.
هذا يعني أن مجرد التواجد النشط على المنصات قد ينتج تلقائيًا شبكة بيانات يمكن استغلالها لاحقًا بطرق لم يتخيلها المستخدم نفسه.
كيف تتحول هذه البيانات إلى أدلة اتهام؟
العديد من القوانين في البلدان القمعية صيغت بمرونة تسمح بتأويلها. «الإساءة لهيبة الدولة»، «نشر شائعات تمس الأمن القومي»، أو «التعاون مع جهات معادية» هي عناوين عامة جدًا يمكن إسقاطها على تغريدة أو منشور أو حتى إعجاب.
التاريخ الرقمي للصحفي — الذي يشمل منشوراته القديمة، تفاعلاته، وحتى الصور التي شاركها — يُستخرج بسهولة من المنصات ويُقدم أمام القضاء كأدلة دامغة. وفي كثير من الحالات، لا يحصل الصحفي حتى على فرصة للاعتراض على سياق اقتطاع هذه البيانات أو تفسيرها.
نصائح علمية وأكاديمية لتقليل المخاطر
رغم قتامة المشهد، يمكن للصحفيين والناشطين تقليل مخاطر الملاحقة عبر سلسلة من الإجراءات المبنية على أفضل الممارسات في الأمن الرقمي.
تحقق دائمًا من إعدادات الخصوصية على جميع حساباتك. اجعل أقل قدر ممكن من معلوماتك مرئيًا للعامة.
افصل الهوية الشخصية عن الحسابات المهنية بقدر المستطاع. استخدم حسابات منفصلة لكل غرض ولا تخلط دوائر علاقاتك.
استخدم أدوات مشفرة للتواصل مع المصادر، مثل تطبيقات تدعم التشفير التام.
راجع باستمرار قائمة الأصدقاء والمتابعين. احذف من لا تثق به أو الحسابات الغريبة.
احذر من الرسائل أو الروابط المريبة. كثير من الاختراقات تبدأ برسالة صيد احتيالي.
أعد النظر في محتوى منشوراتك القديمة. احذف ما قد يُستخدم لاحقًا ضدك في سياق معادٍ.
تعلم أساسيات الأمن السيبراني، مثل إدارة كلمات المرور عبر تطبيقات موثوقة وعدم إعادة استخدام نفس الكلمة.
ضرورة وجود حماية قانونية وضغط مجتمعي
الأمان الرقمي لا يتحقق فقط بإجراءات فردية. يحتاج الصحفيون والناشطون إلى بيئة قانونية تجرم الرقابة التعسفية وتحمي حرية التعبير. على المنظمات الدولية والحقوقية أن تواصل الضغط للكشف عن الانتهاكات وفرض معايير حماية على شركات التواصل نفسها.
كذلك على المنصات الكبرى أن تطور سياسات تحمي الصحفيين في البيئات الخطرة، مثل إشعارات عند محاولات الوصول غير المصرح بها، أو آليات تسمح بمسح سريع وشامل للمحتوى في حال الطوارئ.
الوعي هو خط الدفاع الأول
أخطر ما في المراقبة الرقمية أنها لا تبدو للوهلة الأولى تهديدًا مباشرًا. الصحفي قد يعتقد أن تغريدة عابرة أو متابعة مصدر معلومات لا تعني شيئًا، لكنه في واقع الدول القمعية قد يدفع ثمنها حريته أو حتى سلامته.
لهذا السبب يجب أن يظل الصحفيون والناشطون يقظين، يطورون مهاراتهم الرقمية ويعيدون النظر في عاداتهم على الشبكات. في زمن تحوّلت فيه الخوارزميات إلى محققين صامتين، يصبح الوعي والمعرفة أداتين ضروريتين للدفاع عن الكلمة الحرة.