لعبة معقدة: المشاعر هدف تسويقي جديد
في السنوات الأخيرة، تطورت صناعة الإعلان لتصبح أكثر دقة وتعقيدًا من أي وقت مضى. لم تعد منصات مثل فيسبوك، يوتيوب أو حتى متاجر التطبيقات تعرض لك إعلانات بناءً فقط على بياناتك الديموغرافية أو اهتماماتك المسجلة. بل انتقلت إلى مستوى أعمق: قراءة حالتك النفسية في الوقت الحقيقي.
هذا يحدث عبر تقنيات متعددة تبدأ من تحليل أنماط التصفح، وتشمل كذلك التعرف على تعبيرات الوجه باستخدام كاميرا هاتفك أو جهازك الذكي. الهدف الرئيسي: تحديد حالتك المزاجية بدقة كي يعرض لك إعلانًا يؤثر عليك في تلك اللحظة بالذات.
كيف تتعقبنا الخوارزميات في صمت؟
عندما تستخدم هاتفك أو حاسوبك، تسجل التطبيقات مئات الإشارات الدقيقة. مثلًا، كم مرة توقفت لتقرأ منشورًا حزينًا؟ كم ثانية شاهدت إعلانًا مبهجًا؟ هل ضغطت زر الإعجاب أم تجاوزت المحتوى بسرعة؟
خوارزميات التعلم الآلي تحلل هذه الأنماط لتستنتج حالتك النفسية. إذا لاحظت أنك في مزاج متراجع، قد تعرض لك إعلانًا لرحلة ترفيهية أو طعام مريح. إذا رصدت أنك حماسي، ربما تريك منتجات جديدة للشراء.
الأدهى أن بعض التطبيقات التي تمنحك «فلاتر جميلة للصور» قد تطلب الوصول إلى الكاميرا في الخلفية. بهذه الطريقة يمكن للتطبيقات — بمساعدة خوارزميات التعرف على الوجه — أن تقدر مشاعرك: هل أنت مبتسم؟ مندهش؟ غاضب؟ ومن ثم تستخدم هذه المعلومات لتوجيهك بإعلانات مصممة خصيصًا لتأثير على حالتك.
الجانب المظلم: تلاعب خفي في قراراتنا
هذا النمط الجديد من الإعلانات لا يتوقف عند محاولة البيع. الشركات العملاقة تملك اليوم إمكانية اختبار مئات الإصدارات من الإعلان نفسه في وقت متزامن لتكتشف أيها أكثر تأثيرًا عليك في مزاجك الحالي.
هذا يعني أن إعلانًا قد يُعرض لك وأنت في لحظة ضعف نفسي ليقنعك بشراء شيء ربما لم تكن لتفكر فيه لو كنت أكثر هدوءًا أو تركيزًا. في حالات أسوأ، يمكن استغلال مشاعرك الغاضبة لتغذيتها بمحتوى تحريضي يزيد انفعالك، وبالتالي يجعلك أكثر قابلية للتفاعل — وهو ما يعود بالربح على المنصات التي تعيش على عدد النقرات والمشاهدات.
الأبحاث في مجال «الاقتصاد السلوكي الرقمي» تظهر أن تكرار مثل هذا التلاعب قد يغير على المدى البعيد في أنماط الاستهلاك، بل وحتى في تشكيل القناعات السياسية والاجتماعية.
أين المشكلة القانونية والأخلاقية؟
الكثير من هذه الأنظمة يجري دون موافقة واضحة أو وعي حقيقي من المستخدمين. صحيح أنك قد توافق في بداية تحميل التطبيق على «الشروط والأحكام»، لكن من النادر أن يقرأ أحد فعلًا بنودًا مثل: «نحلل تعبيرات وجهك لتخصيص إعلانات لك».
في الاتحاد الأوروبي، فرضت اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) قيودًا صارمة على جمع البيانات البيومترية مثل تعابير الوجه. لكن في كثير من الدول الأخرى لا توجد قوانين صريحة تحمي المستخدمين من هذا النوع من الرصد النفسي.
حتى في الأماكن التي توجد فيها قوانين، الشركات غالبًا تستعين بصياغات قانونية ضبابية تسمح لها بمواصلة جمع وتحليل البيانات طالما حصلت على «موافقة عامة» في بداية الاستخدام.
كيف نحمي أنفسنا من هذا التسلل العاطفي؟
الوعي هو خط الدفاع الأول. معظمنا لا ينتبه لحجم البيانات التي تولدها تحركاتنا البسيطة على الشاشة، أو كيف تترجم تعابير وجوهنا أمام الكاميرا إلى نقاط بيانات تسويقية.
هنا بعض الخطوات العملية:
- راجع أذونات التطبيقات بانتظام. اسحب صلاحية الوصول للكاميرا أو المايكروفون من أي تطبيق لا يحتاجها فعليًا.
- استخدم إضافات على المتصفح تمنع تتبع «الكوكيز» وسلوك التصفح، مثل uBlock أو Privacy Badger.
- قلل استخدامك للكاميرا أو التطبيقات التي تطلب تشغيلها بشكل دائم دون مبرر.
- اقرأ بتمعن إعدادات الخصوصية على المنصات الكبرى، وحدد نطاق الإعلانات المخصصة، أو أوقفها إن أمكن.
- انتبه لتصرفاتك: إذا لاحظت أنك تميل لشراء أشياء أو التفاعل مع محتوى محدد عند شعورك بالملل أو الحزن، فاعلم أنك في دائرة التأثير النفسي المقصود.
الحل لا يكمن في الهروب من التكنولوجيا
نحتاج أن نتقبل أن هذه التقنيات ستظل موجودة وستتطور. الحل ليس في الانعزال الرقمي، بل في المطالبة بتشريعات واضحة وشفافة تفرض على الشركات أن تكشف أسلوب عمل خوارزمياتها.
يجب أن يُمنح المستخدم الحق في معرفة ما الذي يُجمع عنه بالضبط، ولماذا، ولأي مدة، ومع من يُشارك. كما يجب أن نطالب بوجود خيار لإلغاء تتبع التعابير والحالات النفسية بشكل كامل.
الوعي الجماعي بهذه القضايا سيجبر الشركات على التنافس ليس فقط في جودة الإعلانات، بل في احترام حرية المستخدم وحالته النفسية.
توازن بين متعة التكنولوجيا وصحة القرار
الخوارزميات قد تكون أداة مذهلة تجعل إعلاناتنا أقرب لاحتياجاتنا، لكن المشكلة حين تتجاوز ذلك لتستهدف لحظات ضعفنا العاطفي. إن الإعلانات التي تفهم حالتك النفسية قد تبدو كالسحر، لكنها في الحقيقة قد تتحكم في اختياراتك دون أن تشعر.
لذلك، كن يقظًا. تمتع بالتكنولوجيا لكن لا تمنحها مفاتيح قلبك وعقلك دون تفكير. المستقبل الرقمي ملك لنا إذا أدركنا كيف ندير علاقتنا به بذكاء ووعي.