مع التقدم المتسارع في تقنيات واجهات الدماغ–الحاسوب (BCI)، بات بالإمكان ترجمة الإشارات العصبية إلى أوامر رقمية تمكّن الأشخاص المصابين بإعاقات حركية من التحكم بالأجهزة أو التواصل دون حركة. هذا التطور يمثل إنجازاً إنسانياً وعلمياً بالغ الأهمية، لكنه يثير في الوقت ذاته أسئلة جوهرية حول الخصوصية وملكية البيانات.
فالمعلومات التي تجمعها هذه الأنظمة لا تتعلق بسلوك المستخدم أو موقعه الجغرافي فحسب، بل تتصل مباشرة بوظائف الدماغ—بأفكاره، انفعالاته، واستجاباته العصبية. إنها بيانات تتجاوز حدود الجسد لتصل إلى ما يمكن وصفه بـ“الذات العصبية”. ومع اتساع استخدام هذه التقنيات، تصبح مسألة حماية البيانات العصبية قضية أخلاقية لا تقل أهمية عن الحماية الجسدية نفسها.
ماهية واجهات الدماغ–الحاسوب
واجهة الدماغ–الحاسوب هي نظام يتيح الاتصال المباشر بين الدماغ وجهاز خارجي، عبر تحويل الإشارات العصبية إلى أوامر رقمية. تُجمع هذه الإشارات بواسطة أقطاب كهربائية مزروعة أو أجهزة استشعار غير جراحية، ثم تُحلل باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لاستخراج الأنماط العصبية المقابلة للحركات أو الأفكار.
في مجال إعادة التأهيل، تمكّن هذه الأنظمة المصابين بالشلل من التحكم في الأطراف الصناعية أو الكراسي المتحركة، كما تُستخدم لتحسين التواصل لدى من فقدوا النطق. ومع ذلك، فإن ما يجعلها فعالة هو بالضبط ما يجعلها خطيرة: قدرتها على الوصول إلى النشاط العقلي العميق دون وساطة الوعي الكامل للمستخدم.
حساسية البيانات العصبية
البيانات العصبية تختلف نوعياً عن أي شكل آخر من البيانات الشخصية. فهي ليست مجرد مؤشرات بيولوجية، بل تمثل ترجمة رقمية لحالة الإنسان الذهنية والعاطفية. يمكن من خلالها، نظرياً، استنتاج المشاعر أو النوايا أو حتى الميول المعرفية.
في حال تسرب هذه البيانات أو تحليلها خارج الإطار الطبي، يمكن أن تُستخدم لأغراض مراقبة أو تلاعب نفسي أو تجاري.
إحدى الإشكاليات الكبرى أن هذه البيانات تُخزن عادة في خوادم الشركات المطوِّرة، مما يمنحها سيطرة شبه كاملة على محتوى العقل البشري. ومع غياب تشريعات واضحة، قد تُستغل هذه المعلومات في تطوير خوارزميات قادرة على قراءة الأنماط العصبية وتحليلها لأغراض غير علاجية.
التحدي الأخلاقي في جمع الإشارات العصبية
في الطب التقليدي، يخضع جمع البيانات الصحية لموافقة مسبقة ومحددة بالزمان والغرض. أما في حالة واجهات الدماغ–الحاسوب، فالمستخدم غالباً لا يستطيع تقدير طبيعة المعلومات التي تُستخرج من دماغه ولا كيف يمكن استخدامها مستقبلاً.
وهنا ينشأ نوع جديد من “الضعف المعرفي”؛ فالمريض الذي يعتمد على الجهاز لاستعادة التواصل قد يمنح موافقة لا إرادية أو غير واعية على استخدام بياناته.
تزداد خطورة هذا الأمر في ظل دخول شركات خاصة إلى مجال التكنولوجيا العصبية، إذ يصبح الهدف التجاري جزءاً من المنظومة العلاجية، ما يجعل حماية الخصوصية رهينة بموازنة معقدة بين الربح والأخلاق.
الثغرات القانونية والتنظيمية
القوانين الحالية لحماية البيانات الشخصية، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، لا تتضمن فئة خاصة بالبيانات العصبية. فهي تعاملها كبيانات طبية، رغم اختلافها الجوهري.
في المقابل، بدأت بعض المؤسسات الأكاديمية والحقوقية بالدعوة للاعتراف بـ“الحقوق العصبية” (Neurorights)، وهي حقوق جديدة تشمل:
- الحق في الخصوصية العقلية.
- الحق في الهوية العصبية المستقلة.
- الحق في حرية التفكير دون تدخل تكنولوجي.
- الحق في الإنصاف الخوارزمي عند تحليل البيانات العصبية.
لكن هذه المبادرات لا تزال في مراحلها الأولى، ولا توجد معايير دولية تُلزم الشركات أو المراكز البحثية بالالتزام بها.
الخطر التقني: من إعادة التأهيل إلى التحكم
في الأنظمة المتقدمة، لا تقتصر واجهات الدماغ–الحاسوب على استقبال الإشارات، بل يمكنها أيضاً إرسال نبضات كهربائية محفزة لإعادة تنشيط المسارات العصبية أو تعديلها.
هذا الاتجاه، المعروف باسم “الواجهات ثنائية الاتجاه”، يفتح الباب أمام إمكانية التأثير المباشر في النشاط العصبي. ومع غياب الضوابط القانونية، يمكن أن يؤدي هذا إلى تلاعب غير معلن بحالة الوعي أو المشاعر، مما يثير سؤالاً وجودياً: أين ينتهي العلاج وتبدأ السيطرة؟
كما يمكن للهجمات السيبرانية أن تستهدف هذه الأجهزة، ليس لسرقة بيانات فحسب، بل للتلاعب بالأوامر العصبية نفسها. وهو سيناريو حذرت منه تقارير أمنية حديثة، إذ يُعد أحد أخطر أشكال الاختراق التقني الممكنة.
مسؤولية الشركات والمؤسسات البحثية
يتعين على الشركات المنتجة لتقنيات واجهات الدماغ–الحاسوب أن تتبنى معايير صارمة للشفافية والتشفير، وأن تضمن بقاء البيانات في حوزة المستخدم لا على خوادمها الخاصة.
كما يجب أن تلتزم الأبحاث الطبية بمبدأ “الحد الأدنى من الجمع”، فلا تُسجل سوى الإشارات الضرورية لغرض علاجي محدد.
ينبغي أيضاً تطوير بروتوكولات أخلاقية جديدة تتيح للمستخدمين الاطلاع الكامل على طبيعة البيانات التي تُجمع وطريقة معالجتها، مع حقهم في سحب الموافقة في أي وقت.
البعد الفلسفي: خصوصية الوعي
في عمق هذا النقاش، تقف مسألة فلسفية تتعلق بمفهوم الذات الإنسانية. فحين تصبح الأفكار قابلة للقراءة والتحليل، تتلاشى الحدود بين الداخل والخارج، بين ما هو شخصي وما هو تقني.
يُخشى أن يتحول العقل إلى مورد بيانات جديد يُدار كما تُدار المنصات الرقمية اليوم.
إن حماية البيانات العصبية ليست مجرد قضية خصوصية، بل دفاع عن حرية الفكر كأحد أقدم حقوق الإنسان، وعن الوعي بوصفه آخر المساحات التي لم تُستعمر رقمياً بعد.
لابد من التذكّر
أن التكنولوجيا العصبية، مهما كانت نواياها العلاجية، تقترب من أكثر مناطق الإنسان خصوصية وحساسية. البيانات المستخرجة من الدماغ ليست مجرد أرقام، بل أجزاء من الذات.
تأسيس إطار قانوني وأخلاقي لحماية هذه البيانات ضرورة عاجلة قبل أن يتحول التقدم العلمي إلى وسيلة لاختراق الوعي ذاته. فالتقنية التي تُعيد الحركة يجب ألا تسلب الإنسان حريته الفكرية، لأن الكرامة الإنسانية تبدأ من العقل قبل الجسد.





