تبدأ هوية الطفل الرقمية بالتشكّل منذ لحظة دخوله الفضاء الإلكتروني، بل أحياناً قبل ذلك، عندما ينشر الأهل صور المواليد على شبكات التواصل. تتراكم هذه الآثار الرقمية لتكوّن ملفاً ضخماً من المعلومات يمتد على مدار سنوات الطفولة. لكن حين يكبر الطفل ويصبح مواطناً رقمياً مستقلاً، يطرح السؤال نفسه: من يملك تلك البيانات؟
تتحول هذه المسألة إلى قضية قانونية وأخلاقية معقدة، لأن البيانات التي تجمعها المنصات لا تختفي بمرور الزمن، بل تظل موجودة في خوادم وسجلات يصعب الوصول إليها أو حذفها، مما يجعل حق الطفل في إدارة هويته الرقمية أمراً محورياً في النقاش العالمي حول الحقوق الرقمية.
الهوية الرقمية للطفل
الهوية الرقمية ليست مجرد اسم مستخدم أو حساب على تطبيق، بل هي البصمة الإلكترونية التي تنشأ من تفاعلات الطفل اليومية مع الإنترنت. تشمل هذه الهوية البيانات الشخصية، والسلوكيات على المنصات، وسجل المواقع، والأنشطة التعليمية والترفيهية.
مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليل السلوكي، بات بالإمكان بناء صورة دقيقة عن شخصية الطفل واهتماماته، الأمر الذي يحول هذه الهوية إلى أصل رقمي له قيمة اقتصادية يمكن استغلالها لأغراض تسويقية أو حتى أمنية.
ملكية البيانات بين الأهل والمنصات
من الناحية القانونية، يتحمل الأهل مسؤولية إدارة بيانات أبنائهم حتى سن الرشد. لكن هذا لا يمنحهم ملكية مطلقة، إذ يجب أن تُمارس هذه السلطة بما يحمي مصلحة الطفل. في الوقت ذاته، تجمع الشركات التقنية بيانات ضخمة عن الأطفال عبر الألعاب، وتطبيقات التعلم، وأجهزة التتبع، وغالباً ما تُستخدم في الإعلانات أو دراسات السوق.
وعندما يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ، تكون هذه البيانات قد اندمجت في منظومات تجارية وتحليلية متعددة، مما يجعل من الصعب استعادتها أو حذفها بالكامل. وهكذا، يفقد الجيل الجديد السيطرة على أثره الرقمي منذ البداية.
الأطر القانونية والتنظيمية
يحاول الاتحاد الأوروبي عبر اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وضع معايير صارمة لحماية القُصّر، مثل اشتراط موافقة الوالدين لمعالجة البيانات وإعطاء الحق في حذفها لاحقاً. غير أن التطبيق العملي يظل محدوداً خارج أوروبا، خصوصاً في الدول التي تفتقر إلى تشريعات خصوصية رقمية واضحة.
في العالم العربي، لا توجد قوانين متخصصة لحماية بيانات الأطفال الرقمية. فالقوانين العامة لحماية البيانات تركز على المؤسسات والشركات ولا تعالج خصوصية الفئات العمرية الصغيرة. هذا الفراغ التشريعي يتيح للشركات التقنية حرية شبه كاملة في جمع وتخزين المعلومات دون مساءلة حقيقية.
التحديات الأخلاقية والاجتماعية
النشر المتكرر لصور الأطفال ومقاطعهم على المنصات الاجتماعية بات ظاهرة شائعة تُعرف باسم “الشارنتينغ”. ورغم أنها تبدو تصرفاً بريئاً، إلا أنها تمثل أحد أشكال انتهاك الخصوصية المبكرة. الصور والمعلومات المنشورة اليوم قد تُستخدم مستقبلاً ضد الطفل أو تصبح جزءاً من أرشيف تجاري لا يمكن محوه.
كما أن المراقبة المستمرة لأنشطة الأطفال عبر التطبيقات والأجهزة القابلة للارتداء تخلق إحساساً مبكراً بانعدام الخصوصية. حين يعتاد الجيل الجديد على وجود المراقبة الدائمة، تتراجع فكرة الاستقلال الذاتي والحق في المساحة الخاصة.
البيانات التجارية والتتبع الخفي
الكثير من الألعاب والتطبيقات التعليمية تجمع بيانات تفصيلية عن الأطفال تحت ذريعة “تحسين التجربة”. هذه البيانات تشمل الوقت الذي يقضيه الطفل في اللعب، تفضيلاته، وحتى استجاباته الانفعالية. وتُحلل هذه المعلومات لبناء ملفات تسويقية دقيقة تُباع لاحقاً لشركات الإعلانات أو الشركاء التجاريين.
بعض الأجهزة الذكية المخصصة للأطفال، مثل الساعات المتصلة أو الكاميرات المنزلية، ترسل بياناتها إلى خوادم خارجية، مما يجعل تتبع مصدر التسريب أو إساءة الاستخدام شبه مستحيل. هذا الواقع يفرض ضرورة تنظيم صارم للقطاع الذي يتعامل مع البيانات الحساسة للفئات العمرية الصغيرة.
نحو حق جديد في السيادة الرقمية
بدأت منظمات حقوقية واقتصادية تدعو إلى اعتماد مبدأ “السيادة الرقمية للطفل” كحق قانوني مستقل. يعني هذا المبدأ أن البيانات التي تُجمع أثناء الطفولة يجب أن تُدار باسم الطفل وتُعاد إليه ملكيتها عند بلوغه سن الرشد. كما يجب تمكينه من مراجعتها، تعديلها، أو حذفها وفق إرادته.
تحقيق هذا الحق يتطلب بنية تشريعية متكاملة تشمل الأهل، المؤسسات التعليمية، والشركات التقنية، مع فرض عقوبات على من يحتفظ ببيانات القُصّر دون مبرر مشروع أو إذن صريح.
حماية الهوية عبر التوعية والتقنيات الآمنة
لا تكفي القوانين وحدها لحماية الهوية الرقمية للأطفال. فالتربية الرقمية أصبحت ضرورة تربوية. يجب تعليم الأطفال كيفية حماية معلوماتهم، وتمييز طلبات الوصول المشبوهة إلى البيانات، وفهم أهمية الخصوصية في بيئة الإنترنت.
في المقابل، ينبغي على الشركات تبني تقنيات “الخصوصية بالتصميم”، بحيث تُقلل من جمع البيانات إلى الحد الأدنى وتستخدم تشفيراً افتراضياً لجميع المعلومات الحساسة. كما يجب على الأهل مراجعة إعدادات الخصوصية بانتظام والتفكير قبل نشر أي مادة رقمية تخص أبناءهم.
لابد من التذكّر
أن الهوية الرقمية ليست امتداداً افتراضياً للهوية الواقعية فحسب، بل هي جزء من الوجود الإنساني ذاته في العصر الرقمي. الحفاظ على حق الطفل في إدارة بياناته يعني احترام حقه في الذاكرة والنسيان، في الاختيار والتصحيح.
إذا لم يُحم هذا الحق مبكراً، فإن جيل المستقبل سيولد مكشوفاً رقمياً منذ اللحظة الأولى. إن حماية الطفولة الرقمية هي الخطوة الأولى نحو مجتمع يحترم الإنسان وكرامته في كل أبعاده المادية والرقمية.





