خلال الأعوام الأخيرة، أصبحت الرقمنة ضرورة ملحة، خاصة في الدول التي تواجه تحديات داخلية معقدة. أوكرانيا، منذ عام 2014، واجهت صراعات مسلحة وأزمات اقتصادية. ورغم ذلك، أطلقت الحكومة منصة Diia، التي جمعت عشرات الخدمات الرقمية في مكان واحد، وسهلت حياة المواطنين بطريقة ملحوظة.
تُظهر هذه التجربة أن التحول الرقمي لا يتطلب دائمًا بيئة مستقرة أو موارد وفيرة، بل يحتاج إلى رؤية واضحة، واستراتيجية تنفيذ مرنة، وشراكات فعالة بين الجهات الحكومية والخاصة.
منصة Diia: مفهومها وأهدافها
Diia هي منصة حكومية رقمية أطلقتها وزارة التحول الرقمي الأوكرانية عام 2020. تتيح للمواطنين الوصول إلى أكثر من 120 خدمة حكومية من خلال تطبيق موحد. وتشمل الخدمات إصدار وثائق رسمية، توقيع مستندات إلكترونيًا، التحقق من الهويات، وتقديم شكاوى أو طلبات رسمية.
كما تمثل Diia هوية رقمية معترف بها داخل أوكرانيا، مما يسمح باستخدامها في كافة المعاملات دون الحاجة إلى مستندات ورقية. هذا التوجه قلل البيروقراطية ورفع كفاءة العمل الحكومي.
أسباب نجاح Diia في بيئة مليئة بالتحديات
وضعت الحكومة هدفًا واضحًا لتحويل جميع الخدمات الحكومية إلى خدمات رقمية بحلول عام 2024. هذا الطموح السياسي ساعد في تسريع الخطوات وتنظيم الأولويات.
اعتمد فريق Diia على تكنولوجيا سحابية مرنة، مما مكّنهم من تطوير المنصة وتحديثها بسرعة. وبالإضافة إلى ذلك، صُمّمت الواجهة بطريقة بسيطة وسهلة الاستخدام، ما ساعد على تقليل الحواجز أمام المستخدمين من مختلف الأعمار والمستويات التعليمية.
لعب القطاع الخاص دورًا مهمًا في تطوير البنية التقنية والأمنية للمنصة. كما ساهمت استجابة الحكومة السريعة أثناء الأزمات، مثل الحرب الروسية، في ترسيخ المنصة كمصدر موثوق للخدمات الطارئة والمساعدات.
دروس مستفادة للدول الأخرى
أولًا، من الضروري ربط التحول الرقمي بالاحتياجات الواقعية للمواطنين. ركزت Diia على الوثائق الأساسية والمدفوعات والتواصل مع الجهات الحكومية، ما جعل المنصة ضرورية للحياة اليومية.
ثانيًا، اتبعت أوكرانيا نهج التطوير التدريجي. أطلقت نسخة أولية من المنصة، ثم أضافت الخدمات بناءً على تجارب المستخدمين، مما حافظ على مرونة التطوير وقلل من المخاطر.
ثالثًا، وفرت الحكومة بيئة قانونية تدعم الرقمنة. جرى تعديل قوانين الهوية والتوقيع الإلكتروني لتتوافق مع آليات العمل الرقمي. وقد ساعد ذلك في تعزيز الثقة والاعتراف القانوني بالمنصة.
رابعًا، اعتمدت Diia على مبدأ الشفافية، حيث تم نشر بعض أجزاء الكود المصدري للمراجعة العامة. هذا ساهم في بناء الثقة، وساعد المجتمع التقني في تحسين المنصة.
خامسًا، أظهرت التجربة أهمية تصميم المنصة لتكون مرنة في حالات الطوارئ. خلال الحرب، أضاف الفريق تقنيات للتحقق من الضحايا، وتوزيع المساعدات، وخدمات للاجئين. هذا التفاعل السريع عزز اعتماد المواطنين عليها.
التحديات التي واجهت المنصة
تعرضت المنصة لمحاولات اختراق متكررة، مما استدعى استثمارًا كبيرًا في البنية الأمنية. كذلك، واجه الفريق تحديًا في إيصال الخدمات للمناطق الريفية التي تعاني من ضعف في البنية التحتية الرقمية.
اعتمدت Diia على الاتصال الدائم بالإنترنت، وهو ما يشكل عائقًا في بعض المناطق المحاصرة أو المتأثرة بالنزاع. كما أن بعض كبار السن واجهوا صعوبات في استخدام التطبيق، ما استدعى إطلاق حملات توعية موسعة.
إمكانات التكرار في دول أخرى
يمكن للدول ذات التحديات المشابهة الاستفادة من النموذج الأوكراني إذا التزمت بعدة شروط أساسية. أولها، البدء بتحليل واضح للاحتياجات والخدمات ذات الأولوية. ثانيًا، الاستثمار في التعليم الرقمي وتدريب الكوادر المحلية. ثالثًا، تبني استراتيجيات تطوير تدريجية تسمح باختبار التجربة وتحسينها باستمرار.
تستطيع الدول التي تفتقر إلى موارد ضخمة أن تعتمد على البرمجيات مفتوحة المصدر لتقليل التكاليف. كما يمكن بناء مراكز بيانات وطنية بدلًا من الاعتماد على خدمات سحابية أجنبية قد لا تكون متاحة أو آمنة.
نجحت أوكرانيا في تقديم نموذج عملي لتحول رقمي شامل في بيئة مليئة بالتحديات. لم يكن هذا النجاح نتيجة وفرة الموارد، بل جاء من وضوح الرؤية، وإدارة ذكية للموارد، واستجابة سريعة لحاجات المواطن. يمكن للدول الأخرى تكييف هذه التجربة وفقًا لظروفها، مع مراعاة أهمية المرونة، التعاون، والأمن الرقمي.