المدينة التي تراك: كيف تحوّلت الأرصفة الذكية إلى منصات لجمع البيانات؟

شارك

تبحث هذه المقالة في تقنيات الاستشعار المستخدمة في المدن الذكية لرصد حركة المارة، وتفحص كيف تُحوّل الأرصفة والشوارع إلى فضاءات رقمية تجمع بيانات دقيقة عن التنقل والسلوك البشري. تناقش الفوائد الحضرية لهذه الأنظمة في تحسين الخدمات العامة، وتقابلها بتحليل للمخاطر المرتبطة بالخصوصية وحرية الحركة في الفضاء العام.

مع انتشار مفهوم المدن الذكية، لم تعد البنية التحتية الحضرية تقتصر على الإسفلت والإضاءة والمجاري، بل أصبحت مكونات رقمية قادرة على الإحساس والتحليل والتفاعل.
فالأرصفة اليوم تُزوّد بحساسات وكاميرات ومستشعرات ضغط وبلوكات ذكية تجمع بيانات في الزمن الحقيقي حول عدد المارة، وسرعة التنقل، وكثافة الحركة، وحتى أنماط الوقوف.

يُقدَّم هذا التطور بوصفه وسيلة لتحسين التخطيط الحضري، وتقليل الازدحام، وتحسين الوصول إلى الخدمات العامة. لكن خلف هذا الخطاب الإيجابي، يبرز سؤال جوهري: هل تحوّل المشي في المدينة إلى نشاط مراقب؟ وهل يحق للمدن جمع بيانات عن الأفراد دون إذنهم المباشر؟

مفهوم الأرصفة الذكية وتقنيات الاستشعار الحضري

الأرصفة الذكية هي بنية مادية مدمجة مع مستشعرات رقمية قادرة على التقاط وتحليل بيانات الحركة. تُستخدم في تتبع الكثافة البشرية، وتقدير تدفق المرور، وتحليل أنماط استخدام الفضاء العام.
تعتمد هذه الأنظمة على عدة تقنيات متكاملة:

  • المستشعرات الفيزيائية: مثل حساسات الضغط أو الوزن المثبتة تحت الأرض لتحديد عدد الأشخاص واتجاه حركتهم.
  • الكاميرات الذكية: المزودة بخوارزميات رؤية حاسوبية تتعرف على الأجسام دون تسجيل وجوههم بالضرورة.
  • البلوتوث وWi-Fi tracking: تلتقط إشارات الهواتف الذكية لتقدير تحركات الأفراد عبر معرفات الأجهزة.
  • منصات تحليل البيانات الحضرية: تقوم بتجميع المعلومات من مئات النقاط وربطها ببيانات النقل والطقس والأنشطة التجارية.

هذه التقنيات تُحوّل المدينة إلى كيان واعٍ يتنفس بيانات، يراقب ويحلل ويدير الفضاء العام بشكل مستمر.

أهداف هذه الأنظمة

تُستخدم بيانات المارة في مشاريع متعددة تخدم الإدارة الحضرية:

  • تحليل أنماط الازدحام في الشوارع وتحسين توقيت الإشارات الضوئية.
  • تخطيط الأرصفة وممرات الدراجات وفقاً للكثافة الفعلية.
  • دعم أنظمة الإنذار المبكر في حالات الطوارئ عبر تتبع تجمعات الحشود.
  • تحسين الخدمات التجارية والسياحية من خلال فهم حركة الزوار.

من الناحية النظرية، تُمكّن هذه الأدوات المدن من اتخاذ قرارات أكثر دقة ومرونة، قائمة على بيانات حقيقية لا على التقديرات التقليدية.

الجانب المظلم: من البيانات إلى المراقبة

رغم المنافع، إلا أن جمع البيانات في الفضاء العام يثير قضايا أخلاقية معقدة.
فحتى عندما تُعلن الجهات المشغلة أن البيانات “مجهولة الهوية”، يمكن في كثير من الحالات إعادة ربطها بأفراد من خلال تحليل الأنماط الزمنية والمكانية.
كما أن تتبع الأجهزة المحمولة عبر البلوتوث أو الواي فاي يُعد نوعاً من المراقبة غير المعلنة، إذ لا يعلم المستخدمون أن وجودهم مسجل.

في بعض المدن، تُستخدم بيانات الحركة لتطبيق سياسات أمنية مثل مراقبة التجمّعات أو تقييم “السلوك العام”، وهو ما يقارب مفهوم “الرقابة الخوارزمية”. هذا النوع من المراقبة الصامتة يمكن أن يحدّ من حرية التنقل ويؤثر في سلوك الأفراد حتى دون تدخل مباشر.

الخصوصية في الفضاء العام

الخصوصية ليست مفهوماً مرتبطاً فقط بالمنازل أو الحسابات الرقمية، بل تمتد إلى الفضاء العام. فحق الفرد في التحرك دون أن يُرصد أو يُحلل سلوكياً هو مبدأ أساسي من مبادئ الحريات المدنية.
لكن في المدن الذكية، يصبح هذا الحق مهدداً بفعل التكامل بين البنية التحتية المادية والأنظمة الرقمية.

تُظهر الدراسات أن معظم المدن لا تملك سياسات واضحة لإدارة البيانات التي تجمعها عن المارة. في كثير من الأحيان، يتم تخزين البيانات لفترات طويلة دون تعريف واضح للغرض منها أو الجهات التي يمكنها الوصول إليها.
غياب الشفافية هنا يعني أن المواطن لا يعلم من يجمع بياناته، ولا أين تُخزن، ولا متى تُحذف.

التشريعات والسياسات التنظيمية

تسعى بعض الحكومات لوضع أطر قانونية لحماية الخصوصية في مشاريع المدن الذكية.
في الاتحاد الأوروبي، تفرض اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) قيوداً على جمع البيانات في الأماكن العامة، وتشترط أن تكون مجهولة وغير قابلة للتعريف الشخصي.
أما في الدول التي لا تمتلك تشريعات خصوصية قوية، فإن تنفيذ مشاريع المدن الذكية يتم غالباً عبر شراكات تجارية مع شركات تكنولوجية تملك حق تحليل البيانات لأغراضها الخاصة.

ينبغي أن تتضمن القوانين الوطنية سياسات واضحة لتصنيف بيانات الحركة كـ“بيانات حساسة”، ووضع قيود على مدة الاحتفاظ بها، وآليات رقابة مستقلة تضمن عدم استخدامها لأغراض تتجاوز المصلحة العامة.

الذكاء الاصطناعي وإدارة الحشود

تتطور أنظمة الاستشعار لتشمل تحليلاً فورياً لحركة المارة باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، القادرة على توقع الزحام أو تحديد الأنماط غير المعتادة.
إلا أن هذه الأنظمة لا تخلو من الانحياز. فقد تفسّر الخوارزميات التجمعات الاجتماعية أو التظاهرات كمؤشرات خطر، مما يؤدي إلى قرارات أمنية مفرطة أو تقييد الوصول إلى بعض المناطق.

بالتالي، يجب أن تُصمم أنظمة التحليل الحضري وفق مبادئ “الأخلاقيات الخوارزمية”، بحيث توازن بين الأمان العام وحرية الحركة، وتمنع التمييز أو التجريم بناءً على بيانات السلوك.

المدن الذكية وحقوق الإنسان

في جوهرها، المدينة الذكية يجب أن تكون بيئة خادمة للإنسان، لا مراقِبة له.
ينبغي أن تُبنى حلول الاستشعار على مبدأ “الشفافية أولاً”، بحيث تُنشر بوضوح إشعارات في الشوارع تُبيّن وجود أنظمة جمع بيانات، وتوضح الغرض منها، وتتيح الوصول إلى سياسات الخصوصية العامة.
كما يمكن إشراك المجتمع المدني في تقييم مشاريع الاستشعار الحضري، للتأكد من أن التكنولوجيا تُستخدم للصالح العام لا للرقابة غير المعلنة.

لابد من التذكّر

أن المدن الذكية ليست فقط شبكة من المستشعرات، بل منظومة اجتماعية تتفاعل فيها التكنولوجيا مع الحقوق المدنية.
جمع بيانات المارة يجب ألا يتحول إلى مراقبة شاملة للفضاء العام، بل إلى وسيلة علمية لفهم الحركة البشرية وتحسين جودة الحياة.
المدينة المتقدمة ليست تلك التي تعرف كل شيء عن سكانها، بل التي تحترم خصوصيتهم حتى وهي تتعلم منهم.

شارك