تواجه المجتمعات المدنية في الدول التي تفتقر إلى الحريات الأساسية تحديات جسيمة في التعبير عن الرأي أو توثيق الانتهاكات. في ظل الرقابة الرقمية المكثفة، أصبح تخزين الملفات الحساسة على الحواسيب المحلية مخاطرة كبيرة، حيث يمكن مصادرتها أو مراقبتها في أي وقت. في هذا السياق، برز التخزين السحابي كأداة حاسمة تمكن النشطاء والصحفيين من حماية بياناتهم والوصول إليها من أي مكان دون ترك أثر رقمي واضح على أجهزتهم الشخصية.
الرقابة الرقمية كأداة قمع سياسي
في العديد من الدول ذات الأنظمة الاستبدادية، تُستخدم أدوات مراقبة متطورة لتعقب أنشطة الأفراد على الإنترنت. تشمل هذه الأدوات فحص البريد الإلكتروني، مراقبة الاتصالات، واختراق الحسابات الشخصية. علاوة على ذلك، يتم في بعض الحالات استخدام البرمجيات الخبيثة للتجسس على الصحفيين والمعارضين. بالتالي، فإن أي ملف يحتوي على أدلة لانتهاك أو تحقيق صحفي قد يشكل تهديدًا لصاحبه إن وُجد على جهاز يمكن مصادرته أو اختراقه.
لماذا التخزين السحابي؟
يوفر التخزين السحابي عدة ميزات تجعل منه خيارًا آمنًا نسبيًا في هذه البيئات:
- الوصول عن بُعد: يمكن الوصول إلى الملفات من أي جهاز بمجرد الاتصال بالإنترنت، دون الحاجة إلى تخزينها محليًا.
- النسخ التلقائي: تتيح بعض الخدمات مزامنة تلقائية للملفات وتخزين نسخ احتياطية مخفية.
- التشفير من طرف إلى طرف: تحمي هذه الخاصية المحتوى من أن يُقرأ حتى من قبل مزود الخدمة نفسه.
- التحكم في الصلاحيات: تسمح الخدمات المتقدمة بتحديد من يمكنه الاطلاع أو التعديل أو تنزيل الملف.
أدوات وخدمات تُستخدم في البيئات عالية الخطورة
1. Tresorit
خدمة سحابية أوروبية معروفة بتركيزها على الأمان والخصوصية، تستخدم تشفيرًا شاملاً وتعمل على مراكز بيانات خاضعة لقوانين صارمة لحماية البيانات. تعتبر مناسبة جدًا للنشطاء الذين يتعاملون مع ملفات حساسة.
2. Proton Drive
تتبع هذه الخدمة لمزود Proton الشهير ببريد إلكتروني مشفر. توفر Proton Drive بيئة آمنة بالكامل لتخزين وتبادل الملفات، مع ضمان عدم تتبع النشاط أو بيع البيانات.
3. Nextcloud
على عكس الخدمات التجارية، تتيح Nextcloud للمستخدمين إنشاء “سحابتهم الخاصة” على خوادم يمكن التحكم بها بالكامل. هذا الخيار يناسب المنظمات التي ترغب في التحكم الكامل بمسار البيانات ومكان تخزينها.
4. SpiderOak ONE
تتميز بتقنية “Zero Knowledge Encryption”، ما يعني أن حتى مزود الخدمة لا يمكنه الوصول إلى ملفات المستخدم. كما تدعم مزامنة متعددة الأجهزة دون تخزين مركزي سهل الاختراق.
الاستخدامات العملية للتخزين السحابي في العمل الحقوقي والصحفي
توثيق الانتهاكات
يستعمل بعض النشطاء خدمات سحابية لتخزين مقاطع فيديو وصور توثق حالات الاعتقال التعسفي أو العنف الأمني. هذا يُمكّنهم من مشاركة الأدلة بسرعة مع منظمات دولية دون الحاجة لحملها ماديًا.
إعداد التقارير والتحقيقات
يعتمد الصحفيون الاستقصائيون على منصات التخزين السحابي للعمل التعاوني على التقارير. يمكن لفريق موزّع جغرافيًا مشاركة ملفات، مسودات، وملاحظات دون الاعتماد على قنوات اتصال تقليدية قد تكون خاضعة للمراقبة.
حماية الشهود والهوية
في حالات معينة، تُستخدم السحابة لحفظ بيانات حساسة تخص شهودًا أو ضحايا انتهاكات، ويتم الوصول إليها فقط من خلال روابط مؤقتة أو أكواد تحقق مشفرة.
التحديات والمخاطر المحتملة
1. مراقبة الإنترنت
حتى عند استخدام الخدمات السحابية، يمكن للسلطات القمعية تعقب أنماط الاتصال، أو تحديد توقيت استخدام الخدمة، أو حتى حجب المنصة بالكامل.
2. الثقة بمزودي الخدمة
رغم قوة التشفير، فإن استخدام خدمات تخزن البيانات في دول لا تحمي الخصوصية قد يعرض المستخدمين للخطر. لذلك، من المهم اختيار مزود لا يخضع لاتفاقيات مشاركة البيانات مع الأنظمة القمعية.
3. الفجوة التقنية
لا يمتلك جميع النشطاء أو الصحفيين المعرفة الكافية باستخدام هذه الأدوات بأمان. سوء الاستخدام أو الإعداد غير الصحيح قد يلغي كل مزايا الأمان المفترضة.
توصيات للنشطاء والصحفيين
- استخدام أدوات تعتمد على التشفير من طرف إلى طرف.
- تفعيل المصادقة الثنائية في كل حساب سحابي.
- الاعتماد على كلمات مرور قوية ومولّدة تلقائيًا.
- فصل الحسابات المهنية عن الشخصية.
- تجنّب تخزين أي ملف حساس على أجهزة محلية غير مشفّرة.
- استخدام VPN موثوق عند رفع أو تنزيل الملفات.
مستقبل التخزين السحابي في البيئات المقيدة
مع تطور الرقابة الرقمية، ستصبح الحاجة إلى أدوات مرنة وأكثر أمانًا في ازدياد. قد يؤدي ذلك إلى نشوء خدمات سحابية لا مركزية بالكامل، تعتمد على البلوك تشين أو الشبكات الموزعة. كما ستعزز هذه الأدوات من قدرة المجتمعات المدنية على مقاومة الرقابة وإيصال الحقيقة للعالم.
في ظل التحديات التي تفرضها الرقابة الصارمة على الحريات الرقمية، أصبح التخزين السحابي وسيلة فعالة لحماية الملفات، توثيق الانتهاكات، والعمل بحرية نسبية. لا يمثل هذا الحل ضمانًا مطلقًا، لكنه خطوة ضرورية ضمن منظومة أوسع من الأدوات التي تمكّن النشطاء والصحفيين من أداء دورهم في البيئات القمعية، دون تعريض حياتهم أو مصادرهم للخطر.