صناديق اقتراع تُدار بالخوارزميات: كيف تُعيد البيانات رسم القرار الديمقراطي؟

شارك

تبحث هذه المقالة في الدور الخفي للذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في تشكيل نتائج الانتخابات عبر الإعلانات السياسية الموجهة. توضح كيف تُستخدم خوارزميات الاستهداف لتوجيه الرسائل الانتخابية بدقة حسب سلوك الناخبين، وتناقش المخاطر الأخلاقية على الشفافية والديمقراطية. كما تطرح تساؤلًا حول ما إذا كانت البيانات أصبحت أداة للإقناع المشروع أم وسيلة للتلاعب بالإرادة الشعبية.

من المنابر إلى المنصات

لم تعد الحملات الانتخابية تدار عبر الخطب والبرامج التلفزيونية فقط، بل انتقلت إلى الفضاء الرقمي حيث تحكم الخوارزميات مسار الرسائل السياسية.
تعتمد الأحزاب والمرشحون اليوم على تحليل بيانات ضخمة لتحديد من يجب استهدافه، ومتى، وبأي نوع من الخطاب.
بهذا التحول، لم يعد الإعلان السياسي موجّهًا لجمهور واسع، بل مصممًا خصيصًا لكل فرد بناءً على اهتماماته وسلوكه الرقمي.
إنها ديمقراطية تتحدث بلغة الخوارزميات، حيث يُخاطب كل ناخب بخطاب مختلف، يُقنعه من الزاوية التي تؤثر فيه أكثر.

الذكاء الاصطناعي مهندس الإقناع الجديد

تُستخدم تقنيات التعلم الآلي (Machine Learning) لتحليل ملايين البيانات التي يجمعها المستخدمون يوميًا من خلال نشاطهم على الإنترنت.
تتعلم الخوارزميات من تفضيلات الأشخاص، منشوراتهم، وأوقات نشاطهم لتبني نماذج سلوكية تتنبأ بموقفهم السياسي أو درجة تأثرهم بخطاب معين.
وبناءً على ذلك، تُصمم حملات دعائية رقمية “مفصّلة” لكل شريحة من الناخبين، تُظهر الرسائل التي تزيد احتمالية التصويت للمرشح المستهدف.
بهذا يصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تواصل، بل طرفًا فعليًا في صياغة الرأي العام.

الإعلان الموجّه: سلاح انتخابي مزدوج

تسمح الإعلانات الرقمية الموجهة بتوفير المال وزيادة الكفاءة في الحملات الانتخابية، لكنها تحمل في طياتها خطرًا كبيرًا.
فهي قادرة على تضخيم الانقسام المجتمعي عبر تغذية كل فئة بالمحتوى الذي يؤكد قناعاتها المسبقة.
حين يرى كل ناخب نسخة مختلفة من الحقيقة، تتآكل القاعدة المشتركة للنقاش العام.
كما يمكن استغلال هذه الأدوات في نشر معلومات مضللة أو رسائل مشحونة عاطفيًا، يصعب على المستخدم التحقق منها أو مقارنتها ببدائل موضوعية.

الخوارزميات التي تعرف الناخب قبل أن يصوّت

في تجارب انتخابية متعددة، أثبتت أنظمة تحليل البيانات قدرتها على التنبؤ بنتائج التصويت بدقة تفوق استطلاعات الرأي التقليدية.
فعبر مراقبة أنماط البحث، وتفاعل المستخدم مع المنشورات السياسية، يمكن تحديد ميوله بدقة تتجاوز وعيه الذاتي.
بعض المنصات تجمع بيانات من مصادر مختلفة – مثل الموقع الجغرافي، نوع الجهاز، وحتى سرعة التصفح – لتكوين ملف نفسي كامل للناخب.
هذه القدرة على “قراءة العقول الرقمية” تطرح سؤالًا خطيرًا حول حدود الإقناع المسموح به في الممارسات الديمقراطية.

من الشفافية إلى التلاعب

تكمن المشكلة الأساسية في أن الإعلانات الموجهة غير مرئية للجميع.
فلا يستطيع المراقبون أو وسائل الإعلام معرفة الرسائل التي تُرسل إلى شرائح معينة، مما يجعل الرقابة الانتخابية شبه مستحيلة.
بعض الشركات السياسية طوّرت أدوات “الاستهداف المظلم (Dark Targeting)” التي تسمح بإرسال رسائل سياسية خاصة لا تظهر إلا لمجموعة محددة.
هذا الغموض يفتح الباب أمام التلاعب المنهجي بالناخبين دون علمهم، ويقوّض مبدأ المساواة في الوصول إلى المعلومات الانتخابية.

الذكاء الاصطناعي والديمقراطية القابلة للبرمجة

يطرح هذا الواقع الجديد تحديًا وجوديًا للديمقراطية الحديثة.
فحين يصبح القرار الانتخابي نتاجًا لخوارزمية تُغذى بالبيانات الشخصية، هل يبقى التصويت فعلًا حرًا؟
تعتمد شرعية الانتخابات على استقلالية الناخب، لكن أنظمة الاستهداف الدقيقة قد تخلق بيئة تصويتية موجهة مسبقًا.
إنها لحظة فارقة تُظهر كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُعزز المشاركة السياسية من جهة، وأن تُقيد الإرادة الشعبية من جهة أخرى.

إصلاح الشفافية الرقمية في الحملات الانتخابية

للتصدي لهذه الإشكاليات، بدأت بعض الدول تفرض قوانين تُلزم المنصات الرقمية بالإفصاح عن مصادر الإعلانات السياسية وتمويلها.
كما يجري تطوير تقنيات التوثيق الخوارزمي (Algorithmic Auditing) لمراجعة أداء أنظمة الاستهداف والتحقق من التحيّز أو التضليل.
الشفافية هنا لا تعني كشف البيانات الخاصة، بل تمكين الناخب من معرفة سبب ظهور إعلان معين له تحديدًا، ومنحه القدرة على التحكم في ذلك.
هذه الخطوة تمثل محاولة لإعادة التوازن بين قوة التقنية وحق الفرد في اتخاذ قرار مستقل.

الوعي الرقمي كخط دفاع ديمقراطي

في النهاية، لا يمكن حظر التكنولوجيا، لكن يمكن تعلّم استخدامها بوعي.
فكل ناخب اليوم يحتاج إلى مهارة “القراءة الخوارزمية”، أي فهم كيف تصمم المنصات محتواه ولماذا يُعرض عليه دون غيره.
الوعي بهذه الآليات يمنح المواطن مناعة فكرية ضد التلاعب، ويعيد الديمقراطية إلى أصلها كحوار مفتوح لا كمجموعة من الرسائل الشخصية.
عندما يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تأثير إلى وسيلة وعي، تستعيد الانتخابات معناها كاختيار حر لا كنتيجة محسوبة مسبقًا.

شارك