الخوارزميات التي تراقب ما بين السطور
في الأنظمة السلطوية، لا يأتي القمع بلا مقدمات. يسبقه خطاب رسمي مكرر، وتشديد أمني تدريجي، وتحولات في اللغة الإعلامية يمكن للخوارزميات التقاطها قبل أن يلاحظها البشر.
تعمل أنظمة التحليل اللغوي والسياسي على فحص البيانات العامة الصادرة عن الإعلام الحكومي ومنصات التواصل لتحديد الكلمات والمصطلحات التي تسبق عادة الحملات الأمنية.
حين تتكرر مفردات مثل “استعادة الأمن” أو “مواجهة الشائعات” في بيانات رسمية خلال فترة قصيرة، تسجل الخوارزميات ارتفاعًا في احتمالية اتخاذ إجراءات قمعية وشيكة.
بيانات مفتوحة تكشف نوايا مغلقة
حتى أكثر الأنظمة انغلاقًا تترك أثرًا رقمياً يمكن تتبعه.
تحليل البيانات المرافقة، مثل حركة الإنترنت، أو تزايد الإنفاق الأمني، أو ارتفاع نشاط الحسابات التابعة للحكومة، يمكن أن يكشف استعدادات لمرحلة قمع جديدة.
تجمع النماذج التنبؤية هذه المؤشرات الصغيرة في خريطة احتمالات، تربط بين النشاط الحكومي والبيانات السابقة لحملات مشابهة.
بهذه الطريقة، يصبح من الممكن التنبؤ بالأحداث السياسية عبر قراءة تغيرات دقيقة في البيئة الرقمية دون الحاجة إلى معلومات داخلية.
اللغة كإنذار مبكر
تعتمد بعض النماذج على تحليل الخطاب الرسمي وتحويله إلى مؤشرات كمية.
عبر تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، تُحلَّل النصوص السياسية والبيانات العامة لتحديد شدة الخطاب ونبرته وعدد المرات التي تُستخدم فيها مفردات أمنية أو عدائية.
ترتبط هذه التحولات اللغوية غالبًا بقرارات تنفيذية قريبة، إذ يكشف ارتفاع حدة الخطاب عن انتقال النظام من مرحلة التهديد إلى مرحلة الفعل.
بهذا الشكل، يتحول التحليل اللغوي إلى جهاز إنذار مبكر يرصد تغير المزاج السياسي بدقة رقمية.
الذكاء الاصطناعي في تحليل الأنماط الأمنية
لا يقتصر التنبؤ على النصوص فقط، بل يشمل أيضًا أنماط التحرك الميداني.
تعتمد بعض النماذج على صور الأقمار الصناعية لمراقبة التحركات العسكرية أو إنشاء الحواجز الأمنية في المدن.
يمكن ربط هذه الصور ببيانات من مصادر أخرى مثل تغيّر نشاط الاتصالات أو زيادة تفاعل الحسابات الموالية للنظام، لتقديم تحليل شامل عن احتمالية اندلاع حملة اعتقال جديدة.
هذا الدمج بين الصور والبيانات النصية والسلوكية يجعل من الذكاء الاصطناعي أداة استشراف متكاملة للسلوك القمعي.
التحدي الأخلاقي: التنبؤ لا يعني التدخل
رغم الأهمية الكبيرة لهذا النوع من التحليل، إلا أن استخدامه يحمل خطرًا مزدوجًا.
فما يُستخدم للتنبؤ بالقمع يمكن أن يُستغل أيضًا لتقويته، حين تعتمد الحكومات نفسها على الأدوات ذاتها لمراقبة المعارضين والتجسس على نشاطهم.
لهذا السبب، تعمل المؤسسات البحثية المستقلة على وضع معايير لاستخدام البيانات السياسية في التحليل التنبؤي، بحيث تبقى هذه الأدوات في خدمة الشفافية لا المراقبة.
كما يبرز سؤال أخلاقي آخر: هل يحق للنظام الديمقراطي استخدام النماذج ذاتها للتنبؤ بتهديدات الأمن دون المساس بحقوق الأفراد؟
الذكاء الاصطناعي كدرع وقائي للمجتمع المدني
يمكن لتقنيات التنبؤ أن تكون وسيلة إنذار للمجتمع المدني لا سلاحًا بيد السلطة.
تتيح بعض المنصات الحقوقية للمواطنين إدخال بيانات عن حملات الاعتقال أو المداهمات في مناطقهم، لتتعلم النماذج من هذه الأنماط وتقدّر احتمال تكرارها في مناطق أخرى.
تستخدم هذه المبادرات خوارزميات مفتوحة المصدر تتيح الشفافية والمساءلة، وتشجع على التعاون بين الخبراء والمواطنين لتطوير أدوات إنذار مبكر تحمي الناس بدل أن تراقبهم.
حين تصبح البيانات مرآة للسلوك السياسي
يُظهر تحليل السلوك القمعي بالذكاء الاصطناعي أن القرارات السياسية ليست عشوائية بل تسير وفق أنماط يمكن قياسها.
تكرار الأفعال واللغة والتوقيت نفسه يكشف منطق السيطرة لدى الأنظمة الاستبدادية، ويمنح الباحثين فرصة لفهمه واستباقه.
ومع تطور الخوارزميات، يصبح بإمكان المجتمعات والمنظمات استخدام البيانات كسلاح دفاعي يحذر من الخطر قبل أن يقع، بدل الاكتفاء بتوثيقه بعد فوات الأوان.
بهذا الشكل يتحول الذكاء الاصطناعي من مراقِب صامت إلى أداة استباقية لحماية الإنسان من قرارات لم تصدر بعد لكنها قيد التكوين.





