من الإنسان المتحدث إلى الخوارزمية المتواصلة
في السابق، كان الخطاب العام نتاج تفاعل بشري مباشر بين القادة والجماهير.
اليوم، أصبح جزء كبير من هذا التفاعل يُدار بواسطة خوارزميات تحدد ما نراه ونسمعه ونشاركه.
منصات التواصل الاجتماعي تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي تصنف المحتوى وتقدمه وفقًا لتاريخ المستخدم وسلوكه العاطفي.
بهذا، لم تعد الخطابات العامة مجرد كلمات تُقال، بل معادلات رقمية تولدها وتحركها الخوارزميات.
الخوارزميات كصانعة للرأي العام
تعمل خوارزميات التوصية على تضخيم بعض الأصوات وإضعاف أخرى دون وعي المستخدم.
تُحلل التفاعلات، وتستنتج الاتجاهات، ثم تُظهر المحتوى الأكثر توافقًا مع آراء الفرد لتبقيه مندمجًا داخل “فقاعة رقمية”.
هذه العملية، رغم أنها تبدو محايدة تقنيًا، تُعيد تشكيل الخطاب العام من خلال تحديد ما يدخل في النقاش وما يُستبعد منه.
بذلك، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تنظيم إلى لاعب سياسي غير مرئي يؤثر في الأجندة العامة.
المحتوى السياسي المُنشأ آليًا
الذكاء الاصطناعي لم يعد يكتفي بتحليل الخطاب، بل بدأ في إنتاجه.
تُستخدم النماذج اللغوية لإنشاء نصوص وخطب ومقالات تحمل طابعًا سياسيًا، سواء لأغراض دعائية أو تحليلية.
يمكن لهذه الأنظمة صياغة رسائل تستهدف فئات محددة، بل وتُكيّف اللغة والنغمة حسب المعتقدات المسبقة للمستقبل.
هذا التطور يثير تساؤلات عميقة حول حدود الأصالة في الخطاب السياسي ومَن يقف فعلاً خلف الكلمات التي نقرأها.
التحليل العاطفي والتأثير في المزاج الجماعي
من أبرز أدوات الذكاء الاصطناعي في الخطاب العام تحليل المشاعر (Sentiment Analysis)، الذي يُستخدم لقياس ردود فعل الجمهور تجاه قضايا معينة.
تقوم الأنظمة بتحليل الملايين من المنشورات لتحديد اتجاه المزاج العام، سواء كان دعمًا أو رفضًا أو حيادًا.
لاحقًا، تُستخدم النتائج لتعديل الحملات الإعلامية والخطابات الرسمية بما يتماشى مع الرأي السائد.
بهذا، يتحول الجمهور من متلقٍ إلى “مُغذٍّ للآلة”، تغذي مشاعره الخوارزميات التي تعيد بدورها صياغة الخطاب الموجه إليه.
الذكاء الاصطناعي كأداة في الحملات السياسية
أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية ممارسة شائعة.
تُحلل الأنظمة الضخمة بيانات الناخبين وسلوكهم الرقمي لتحديد الرسائل الأكثر تأثيرًا على كل شريحة.
يمكن للخوارزمية إرسال رسائل مختلفة لمجموعات متباينة من الناس في اللحظة نفسها، مما يجعل الخطاب السياسي متعدد الوجوه وغير متجانس.
هذه القدرة على “تفصيل الخطاب” تخلق معضلة أخلاقية بين فعالية الإقناع ومبدأ الشفافية الديمقراطية.
الذكاء الاصطناعي وإعادة تعريف السلطة الإعلامية
لم تعد وسائل الإعلام وحدها مسؤولة عن توجيه الرأي العام، بل شاركتها الخوارزميات هذا الدور.
فهي التي تحدد ترتيب الأخبار، وتقرر أي موضوعات تستحق الانتشار، وأيها تُدفن في زوايا المنصات.
هذا التغيير قلل من سلطة التحرير البشرية، ورفع مكانة الأنظمة الحسابية كجهة تحكم في تدفق المعرفة.
لكن غياب المساءلة يجعل الخطاب الناتج عرضة للتلاعب أو الانحياز البرمجي غير المقصود.
الذكاء الاصطناعي والرقابة الرقمية
تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في بعض الأنظمة لمراقبة المحتوى السياسي وتصنيفه ضمن المسموح أو المحظور.
تُبرمج هذه الأنظمة للتعرف على كلمات أو مواضيع تعتبر “حساسة”، مما يؤدي إلى تقييد النقاش العام باسم الحفاظ على الاستقرار.
وبينما تُسهم في مكافحة التضليل، إلا أنها تفتح الباب أمام الرقابة الآلية (Automated Censorship) التي تضع الخوارزمية في موقع المراقب بدل الإنسان.
وهذا يثير سؤالًا حول من يضع القيم الأخلاقية داخل الكود البرمجي الذي يتحكم في حرية التعبير.
الأثر الثقافي والتحول في إدراك الحقيقة
حين يصبح جزء كبير من الخطاب العام من إنتاج الذكاء الاصطناعي، تبدأ الحدود بين الحقيقة والرأي في التلاشي.
فقدرة الأنظمة على توليد نصوص متماسكة تجعل من الصعب تمييز الخطاب الصادق من المصطنع.
ينعكس ذلك على الثقة المجتمعية، إذ يفقد الجمهور الإحساس بالمصدر والنية، ويتعامل مع كل خطاب على أنه محتمل التلاعب.
هذا التحول المعرفي يهدد فكرة “الخطاب العام المشترك” الذي بُنيت عليه المجتمعات الديمقراطية.
نحو خوارزميات مسؤولة في إدارة النقاش العام
الذكاء الاصطناعي ليس خطرًا بحد ذاته، بل أداة يمكن توجيهها نحو الشفافية والمساءلة.
إن تطوير خوارزميات مسؤولة (Responsible Algorithms) يتطلب تضمين قيم العدالة والوضوح في تصميمها.
كما يجب إشراك خبراء من مجالات الإعلام، والقانون، وعلم الاجتماع لضمان ألا يُحتكر تشكيل الخطاب العام داخل مختبرات البرمجة فقط.
بهذا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح وسيلة لتعزيز التعددية لا لإضعافها.
الإنسان في مواجهة الخطاب المؤتمت
في النهاية، يظل الخطاب العام انعكاسًا للإنسان مهما بلغت قوة الخوارزميات.
المطلوب ليس محاربة الذكاء الاصطناعي، بل فهم آلياته وتطوير مهارات نقدية لتمييز محتواه.
حين يتعامل الأفراد بوعي مع ما ينتج عن الخوارزميات، يمكن للمجتمع أن يستعيد زمام المبادرة في تشكيل صوته الجماعي.
فالمستقبل لن يكون لمن يملك أقوى الآلات، بل لمن يفهم لغتها ويعيد توجيهها نحو خدمة الحقيقة والمصلحة العامة.





