عين الخوارزمية التي لا تُغلق
في البيئات التي تُكمم فيها الأفواه وتُحجب فيها العدسات، أصبح الذكاء الاصطناعي شاهدًا رقميًا لا ينام. تعمل الخوارزميات اليوم كأدوات مقاومة، قادرة على التقاط ما يعجز الإنسان عن توثيقه في ظل الرقابة والتهديد.
تعتمد المؤسسات الحقوقية على تقنيات تحليل الصور والفيديوهات لتحديد أماكن الانتهاكات وتوقيتها، بالاعتماد على خصائص الضوء والظل والموقع الجغرافي.
هذه الأنظمة لا تكتفي برؤية المشهد، بل تفسّره؛ فكل بكسل يحمل معلومة، وكل تغير في الإضاءة قد يكون دليلاً على واقعة تُحاول الأنظمة إنكارها.
حين تتحقق العدالة عبر الصور
واحدة من أكثر الأدوات فاعلية هي خوارزميات التعرّف الآلي على الكائنات، القادرة على تحليل المشاهد المعقّدة واستخراج العناصر المهمة منها: أسلحة، مركبات، أزياء عسكرية، وحتى الشارات الخاصة بالقوات.
عبر هذه التحليلات، يتمكن الباحثون من ربط الحوادث بمناطق نفوذ محددة أو قوات معينة. كما تتيح خوارزميات تحليل الصوت التلقائي تحديد مصدر التسجيل أو نوع السلاح المستخدم من خلال نمط الموجة الصوتية.
بهذه الطريقة، يصبح الذكاء الاصطناعي ليس فقط أداة تحليل، بل شاهدًا موضوعيًا يمكن الاعتماد عليه في تقارير العدالة الدولية.
الذكاء الاصطناعي بين التوثيق والتضليل
في المقابل، تستغل بعض الأنظمة القمعية التقنية نفسها لإنتاج محتوى مزيف، بهدف تشويش الحقائق أو زرع الشك في الأدلة.
تظهر هنا أهمية الخوارزميات المتخصصة في كشف التزييف العميق (Deepfake Detection)، التي تقيّم نسيج الصورة وسلوك الإطارات لتحديد مدى أصالتها.
ولمواجهة هذا التحدي، تعتمد المنظمات المستقلة على أسلوب “التحقق المتعدد المصادر”، حيث تُقارن الصور مع بيانات الطقس، والاتصالات، وصور الأقمار الصناعية لتأكيد وقوع الحادثة فعلاً.
الخصوصية في زمن الرقابة الذكية
رغم القيمة العالية لهذه التقنيات، إلا أنها تثير مخاوف حقيقية تتعلق بالخصوصية.
تحليل وجوه الضحايا أو تفاصيل أجسادهم في مقاطع مسرّبة قد يعرّضهم للخطر، حتى وإن كان الهدف توثيق الحقيقة. لذلك طُوّرت أدوات إخفاء الهوية الآلية التي تمسح الوجوه أو تغيّر الأصوات دون المساس بسياق الدليل.
بهذا الشكل، يظل المضمون الإنساني محفوظًا، وتُحمى هوية الضحايا، مما يوازن بين متطلبات العدالة وحقوق الأفراد.
البيانات لا تموت: ذاكرة رقمية للمظلومين
لا يتوقف دور الذكاء الاصطناعي عند كشف الانتهاك، بل يمتد إلى حفظ الأدلة.
يُستخدم ما يُعرف بـ سلسلة الحفظ الرقمية (Digital Chain of Custody) لتوثيق مصدر كل ملف، وتحديد من عدّله ومتى. وعند ربط هذه البيانات بتقنية البلوكشين، تصبح الأدلة غير قابلة للتغيير، مما يمنحها مصداقية قانونية أمام المحاكم الدولية.
هكذا تتحول البيانات إلى ذاكرة جماعية مقاومة للنسيان، تضمن أن لا تضيع الشواهد مهما تبدّل الزمن أو السلطة.
تحالف الخوارزميات والمجتمع المدني
الذكاء الاصطناعي ليس حكرًا على الحكومات أو الشركات الكبرى.
فبفضل المنصات مفتوحة المصدر مثل Amnesty Decoders وGoogle Earth Engine، أصبح بإمكان النشطاء المحليين في الدول القمعية التعاون مع مختبرات بحثية عالمية لتحليل الأدلة والتحقق منها دون حاجة للوجود الميداني.
هذا التعاون بين التقنية والمجتمع المدني يخلق شكلاً جديدًا من التضامن الرقمي العابر للحدود، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات مقاومة للظلم لا أدوات لفرضه.
العدالة في زمن الخوارزميات
الذكاء الاصطناعي ليس محايدًا بطبيعته، لكنه مرآة تُظهر نوايا من يستخدمه.
في يد الأنظمة المستبدة يصبح وسيلة للمراقبة، وفي يد الحقوقيين يتحول إلى شاهد على الحقيقة.
حين تُسخّر الخوارزميات لكشف الظلم لا لإخفائه، يصبح الذكاء الاصطناعي خطوة نحو عدالة رقمية تحفظ ذاكرة الإنسان وكرامته في آن واحد.





