الأمن في تقنيات ما بعد الإنسان: بين الدماغ والجسد
دخلت البشرية عصرًا جديدًا تندمج فيه التكنولوجيا الحيوية مع الذكاء الاصطناعي. تسمح تقنيات ما بعد الإنسان (Transhumanism) بتوسيع القدرات العقلية والجسدية عبر زرعات ذكية وواجهات عصبية. لكن هذا التقدم يرافقه خطر متزايد على الأمن الشخصي والرقمي.
في هذا السياق، لم تعد البيانات الحيوية تُخزن فقط في المستشفيات، بل تنتج لحظيًا من الجسد وتنقل عبر شبكات اتصال. هذا التحول يفتح المجال أمام تهديدات غير مألوفة.
حماية البيانات العصبية: واجهات الدماغ – الحاسوب
تعتمد واجهات الدماغ – الحاسوب (BCIs) على قراءة الإشارات العصبية وترجمتها إلى أوامر رقمية. تستخدم شركات مثل Neuralink رقائق تُزرع داخل الدماغ لتمكين الاتصال المباشر مع الحواسيب أو الأجهزة الذكية.
آلية نقل البيانات العصبية
تلتقط مستشعرات دقيقة النشاط الكهربائي في الدماغ. تنقل هذه الإشارات إلى شريحة إلكترونية تحللها وتحولها إلى أوامر رقمية. يمكن لهذه البيانات أن تكشف نوايا الحركة، أو الانفعالات، أو أنماط التفكير.
التهديدات الأمنية المحتملة
تتجاوز حساسية هذه البيانات أي نوع آخر من المعلومات. فهي تمثل جزءًا من هوية الفرد العصبية والعاطفية. في حال اختراق النظام، قد ينجح المهاجم في التلاعب بالسلوك أو إرسال إشارات مضللة للدماغ.
يمكن أن يستغل أحد القراصنة الواجهة العصبية للسيطرة على بعض الحركات، أو تعطيل الأوامر العصبية. هذا الاحتمال يُمثل خطرًا حقيقيًا في الاستخدامات العسكرية والطبية.
حلول أمنية مقترحة
لحماية هذه البيانات، يجب تطوير تقنيات تشفير ترتكز على بصمة دماغية فريدة لكل مستخدم. كما ينبغي ربط النظام بوسائل تحقق حيوية تعتمد على إشارات دماغية أو سلوكية لا يمكن تقليدها بسهولة.
يساعد استخدام أنظمة دفاع ذاتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في اكتشاف الأنشطة الغريبة والرد عليها في الوقت الحقيقي. كذلك، يمكن تصميم طبقات أمن متعددة تعمل باستمرار لمراقبة نشاط الرقاقة العصبية.
أمن الزرعات الحيوية: عندما يصبح الجسد مستهدفًا
تشمل تقنيات ما بعد الإنسان أجهزة مزروعة داخل الجسم، مثل الشرائح البيومترية وأجهزة القلب الذكية. تتصل هذه الأدوات بشبكات رقمية لتبادل البيانات الصحية أو تنفيذ وظائف حيوية.
كيف تُستهدف الزرعات الذكية؟
توفر هذه الأجهزة بوابة دخول للمتسللين. يمكنهم الوصول إلى بيانات المستخدم أو تعطيل وظائف الجهاز. على سبيل المثال، قد يتمكن أحدهم من تغيير نبضات جهاز تنظيم القلب، ما يؤدي إلى نتائج كارثية.
في عام 2017، حذرت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية من وجود ثغرات أمنية في بعض أجهزة القلب اللاسلكية. أظهر التحقيق إمكانية تحكم أطراف خارجية في وظائف حيوية من خلال استغلال تلك الثغرات.
أنواع الهجمات المتوقعة
قد تتعرض شريحة بيومترية مزروعة في اليد لهجوم يعطل نظام التحقق الإلكتروني، مما يسمح بسرقة هوية المستخدم. في بعض الحالات، يمكن استغلال الأجهزة القابلة للبرمجة في المراقبة غير المشروعة أو حتى الابتزاز.
الهجمات المتقدمة قد لا تكتفي بسرقة البيانات، بل تهدف إلى التحكم بجسد الإنسان أو الضغط عليه من خلال جهازه المزروع.
استراتيجيات الحماية
لحماية الزرعات الحيوية، يجب عزل وظائف الجهاز الداخلية عن أي اتصال مباشر بالشبكة. من الأفضل أن تُصمم هذه الأجهزة ببنية مغلقة تمنع التواصل الخارجي إلا عند الضرورة.
ينبغي أيضًا استخدام طبقات تشفير قوية ورموز تحقق مؤقتة (OTP) لكل محاولة اتصال. من المفيد تخزين البيانات الصحية بطريقة لامركزية لتقليل فرص الاختراق الكامل.
تساعد التحديثات التلقائية المشفرة في إغلاق الثغرات الأمنية قبل استغلالها، خاصةً إذا اعتمدت الأجهزة على تعليمات برمجية قابلة للتحديث عن بعد.
التحوّل في فهم الأمن السيبراني
تغيّر هذه التقنيات مفهوم الأمن السيبراني من حماية البيانات إلى حماية الجسد نفسه. تصبح الهوية الرقمية امتدادًا للجسد البيولوجي. هذا يستدعي نهجًا أمنيًا جديدًا يدمج بين العلوم العصبية، الطب، وأمن المعلومات.
لم تعد كلمات المرور أو الجدران النارية كافية. نحن بحاجة إلى طبقات دفاع جديدة تُصمم خصيصًا للأنظمة المزروعة داخل الإنسان، وتعتمد على الفهم العميق لوظائفه البيولوجية.
نحو أمن متكامل لجسم الإنسان الرقمي
يمثل أمن تقنيات ما بعد الإنسان أحد أكبر التحديات المستقبلية. تحتاج هذه الأنظمة إلى حماية لا تقل دقة عن حماية البنية التحتية الحيوية. يجب أن يعمل الباحثون في الأمن السيبراني جنبًا إلى جنب مع خبراء الأعصاب والأطباء.
في عالم يتداخل فيه الجسد مع الشبكة، يصبح الحفاظ على سلامة الإنسان مرهونًا بمدى قدرة أنظمته المزروعة على مقاومة الهجمات الرقمية. إن تصميم بيئة آمنة لهذه التكنولوجيا لا يحمي المستخدم فقط، بل يحفظ مستقبل البشرية في مواجهة تطور سريع ومخيف.