حين تعرف المنصات ما ترغب به قبل أن تفكر: كيف تصنع الخوارزميات قراراتنا الشرائية؟

شارك

تتناول هذه المقالة ظاهرة “التسوق العاطفي” الناتجة عن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل المشاعر والسلوك الشرائي للمستهلكين. تشرح كيف تُوظَّف البيانات الضخمة وتقنيات التخصيص السلوكي لتوجيه الإعلانات بما يتوافق مع الحالة النفسية لكل مستخدم. كما تناقش البعد الأخلاقي لهذه الممارسات، وحدود تأثيرها على حرية الاختيار والاستهلاك الواعي.

الذكاء الاصطناعي يدخل إلى عقل المستهلك

لم يعد الشراء على الإنترنت مجرد قرار عقلاني يعتمد على الحاجة أو المقارنة، بل أصبح استجابة عاطفية تُوجَّه بخوارزميات دقيقة.
تراقب هذه الأنظمة تفاعلات المستخدم في كل لحظة: ما يمرر بسرعة، ما يتوقف عنده، وما يضغط عليه من صور أو منتجات.
من خلال هذه السلوكيات البسيطة، تتشكل خريطة انفعالية للمستخدم تُستخدم لاحقًا لتخصيص الإعلانات والمنتجات التي تلامس عواطفه مباشرة.
وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مستشار تسويقي خفي يعرف متى تكون أكثر قابلية للشراء ولماذا.

من البيانات إلى المشاعر: التسويق النفسي المؤتمت

تعتمد خوارزميات التسوق العاطفي على مفهوم التخصيص السلوكي (Behavioral Personalization).
تُحلل هذه الخوارزميات بيانات ضخمة مثل التوقيت، نوع الجهاز، تعابير الوجه (في بعض التطبيقات)، وحتى نبرة الصوت في المساعدات الذكية.
تُربط هذه المؤشرات بالحالة العاطفية للمستخدم، مثل السعادة، القلق، أو الرغبة في المكافأة الذاتية.
وعند لحظة الضعف أو المزاج المرتفع، تُقدَّم الإعلانات المصممة خصيصًا لتفعيل الرغبة الشرائية بأكبر احتمال ممكن.

الخوارزميات التي تتحدث بلغة المشاعر

في السابق، كانت الإعلانات تركز على الفئة العمرية أو الاهتمامات العامة.
أما اليوم، فهي تُبنى على مستوى الانفعال اللحظي لكل فرد.
فعندما يمر المستخدم بيوم متعب، قد تُظهر له المنصة إعلانًا عن قهوة مهدئة أو عطلة قصيرة.
وحين يبحث عن النجاح أو التحفيز، تُقدَّم له منتجات تحمل شعارات الإنجاز والثقة بالنفس.
بهذا، لم تعد المنصات تبيع منتجات فحسب، بل تبيع حلولًا نفسية مؤقتة لمشاعر آنية.

الذكاء الاصطناعي والتسويق التنبؤي

تُستخدم تقنيات التحليل التنبؤي (Predictive Analytics) للتنبؤ بنية الشراء قبل أن يُظهر المستخدم أي اهتمام مباشر.
تتعرف الخوارزميات على أنماط السلوك التي تسبق عملية الشراء، مثل التردد على صفحات معينة أو البحث عن بدائل.
بناءً على ذلك، تُطلق المنصة حملات دعائية مستهدفة في اللحظة المثالية، ما يزيد احتمالية الاستجابة بنسبة كبيرة.
هذا النوع من التسويق يُعرف باسم “اللحظة الصفرية”، أي النقطة التي يسبق فيها الذكاء الاصطناعي رغبة الإنسان بخطوة.

بين الإقناع والتلاعب

المشكلة الأخلاقية الأساسية في التسويق العاطفي هي طمس الحدود بين الإقناع المشروع والتأثير النفسي غير الواعي.
حين تُصمم الخوارزميات لتستغل نقاط الضعف العاطفية، فإنها تقترب من التلاعب أكثر من التسويق.
قد يؤدي هذا إلى أنماط استهلاك غير صحية، أو إلى الاعتماد النفسي على الشراء كوسيلة لتفريغ الضغط.
لذلك بدأت بعض المؤسسات التقنية والهيئات التشريعية في المطالبة بوضع معايير واضحة للشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي الإعلاني.

المستهلك كمنتج رقمي

في عصر الخوارزميات، لم يعد المستخدم مجرد مشتري، بل أصبح مصدرًا للبيانات التي تُستخدم لتوجيهه نفسه.
كل عملية تصفح أو إعجاب أو تعليق تتحول إلى جزء من نموذج رياضي يُحدد مَن أنت وماذا ستشتري لاحقًا.
هذا النموذج يُباع للمعلنين كملف سلوكي جاهز، مما يجعل الاقتصاد الرقمي يعتمد على تجارة المشاعر قبل السلع.
بهذا، يتحول التسوق من عملية اختيار إلى دائرة مغلقة من التأثير وردّ الفعل تديرها خوارزميات لا تعرف الملل.

الذكاء الاصطناعي وتصميم التجربة الشرائية

لم يعد تأثير الخوارزميات مقتصرًا على الإعلان، بل امتد إلى تصميم المواقع والتطبيقات نفسها.
تُرتب المنتجات حسب احتمالية شرائها، وتُغيَّر الألوان والموسيقى وحتى توقيت الإشعارات بناءً على الحالة العاطفية المتوقعة للمستخدم.
تُعرف هذه الاستراتيجية باسم الهندسة السلوكية الرقمية (Digital Behavioral Design)، وهي تهدف إلى جعل التجربة الشرائية ممتعة لدرجة تدفع المستخدم إلى العودة تلقائيًا.
بهذا، يصبح التسوق تجربة نفسية متكاملة أكثر من كونه قرارًا عقلانيًا.

الذكاء الاصطناعي والمسؤولية الاجتماعية للشركات

مع تزايد قدرة الخوارزميات على التأثير، يُطرح سؤال حول مسؤولية الشركات في حماية المستهلك من الإفراط الاستهلاكي.
بعض الشركات بدأت بتطبيق مبادئ “التسويق الأخلاقي بالذكاء الاصطناعي”، والذي يوازن بين الربح واحترام الحالة النفسية للمستخدم.
كما تُستخدم التحليلات نفسها لتقديم توصيات إيجابية، مثل اقتراح فترات راحة أو توعية حول إدارة الإنفاق.
هذا الاتجاه يُظهر أن التقنية يمكن أن تكون وسيلة للوعي إذا وُجِّهت نحو المصلحة العامة لا نحو الاستغلال النفسي.

نحو استهلاك أكثر وعيًا في عصر الخوارزميات

تأثير الذكاء الاصطناعي في التسوق لا يمكن إنكاره، لكنه لا يعني بالضرورة فقدان حرية القرار.
الوعي بكيفية عمل الخوارزميات يمنح المستهلك قدرة على مقاومة الإقناع غير الواعي واتخاذ قرارات مدروسة.
وحين تتبنى المؤسسات مبدأ الشفافية في استخدام بيانات المستخدمين، يمكن للتقنية أن تتحول من أداة استغلال إلى وسيلة تمكين اقتصادي.
إن التحدي ليس في كبح الذكاء الاصطناعي، بل في تعليم الإنسان كيف يتعامل معه دون أن يفقد سيادته على قراراته.

شارك